في وقت يتصاعد التوتر على الحدود بين السودان وإثيوبيا، تحاول الأخيرة تعطيل المساعي المصرية والسودانية لإحياء المسار التفاوضي حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، تحت مظلة الاتحاد الأفريقي. ويُعدّ المسار الأفريقي خطوة أخيرة يمكن الرهان عليها، قبل اللجوء إلى مجلس الأمن أو الانسحاب الفردي أو الثنائي من اتفاق المبادئ الموقع في مارس/آذار 2015. والانسحاب هنا سيعني تصعيد الأزمة إلى مستوى لن تحل فيه إلا بقوة القرار الأممي الدبلوماسي القانوني، أو القوة العسكرية؛ الخيار الذي لم تتحدث عنه بشكل صريح القيادات المصرية والسودانية حتى الآن، بينما تطرّق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إليه، كاحتمال قائم لإنهاء الأزمة.
وكشفت مصادر دبلوماسية مصرية وأخرى أوروبية ذات صلة بالاتحاد الأفريقي لـ"العربي الجديد"، أن إثيوبيا تسعى للضغط على رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي، الرئيس الحالي للاتحاد، لتنحية بلاده عموماً ونفسه خصوصاً عن المفاوضات، بحجة أنه طرف غير محايد وسبق أن أعلن في بعض المناسبات تأييده لمصر.
وأضافت المصادر أن إثيوبيا تحاول استغلال ميزة كونها مقراً للاتحاد، بالإضافة إلى أن معظم المسؤولين الإداريين والدبلوماسيين العاملين في مفوضية الاتحاد الأفريقي هم من الإثيوبيين. وتعمل أديس أبابا على تهيئة رأي عام ضد محاولات تشيسيكيدي، التي بدأت الأسبوع الماضي بمساعدة رئيس مفوضية الاتحاد، موسى فكي، لوضع جدول زمني أوليّ يتضمن دعوة وزراء الخارجية والمياه في الدول الثلاث للاجتماع والبت في أمرين أساسيين؛ أولهما دور الخبراء التابعين للاتحاد في المفاوضات المقبلة، وثانيهما وضع جدول زمني محدد وقصير الأجل لجولة تفاوضية سريعة ومثمرة خلال شهر مارس المقبل.
تسعى إثيوبيا لتنحية الكونغو الديمقراطية عن المسار التفاوضي
وفي موازاة ذلك؛ تُجري إثيوبيا اتصالات بممثلين للدول أعضاء مكتب الاتحاد، والذين يشاركون بصفتهم في المفاوضات كمراقبين، لإبلاغهم تخوفها من المرحلة المقبلة من المفاوضات برئاسة تشيسكيدي. وتدّعي أن مصر والسودان اتفقتا على إفشال المفاوضات السابقة برئاسة جنوب أفريقيا، وبالتالي فإنه لا أمل يُرجى في مفاوضات تُعرف نتيجتها سلفا، بحجة أن الكونغو الديمقراطية أعلنت سابقاً "تفهمها لمخاوف مصر من سد النهضة".
وبحسب المصادر، فإن هذا التقويض المبكر وغير المعلن للمفاوضات يهدف في الأساس إلى إبقاء حالة الجمود الحالية باقية لنحو 160 يوماً متبقياً، تفصل مشروع سد النهضة عن بدء مرحلة الملء الفعلي الثاني، الذي من المنتظر أن تتجاوز كمية المياه التي سيتم حجزها خلاله 13 مليون متر مكعب، أي أكثر من ثلاثة أمثال ما تم حجزه من المياه في مرحلة الملء الأول، الصيف الماضي. وهو ما سيصعّب الأمور كثيراً على السودان خصيصاً، وبدرجة أقل مصر، في التعامل مع التحديات المائية المنتظرة، مع توقّع خروج بعض محطات التغذية من الخدمة في الخرطوم كما حصل العام الماضي، فضلاً عن غياب عنصر الأمان الكامل عن سد الروصيرص، حال استمرار عدم التنسيق في كميات المياه المحجوزة والمقرر تدفقها.
وأوضحت المصادر أن مصر، من جهتها، وتحسباً لعدم نجاح مساعي عقد جولة المفاوضات المرتقبة، بدأت اتصالات بالدول الرئيسية التي راقبت الأزمة منذ بدايتها، والتي يشارك بعض مستثمريها في عمليات إنشاء السد، وكذلك دول في الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في مجلس الأمن. وهدفت القاهرة إلى إعلامهم بالمستجدات الحالية، وبالاحتمال الوشيك للملء الثاني للسدّ من دون إخطار أو اتفاق مسبق على جدول التشغيل، بموازاة التحركات الجارية في واشنطن وعواصم أخرى لحشد رأي عام ضد الممارسات الإثيوبية.
لكن هذه المساعي الدبلوماسية ليست لها آثار إيجابية تذكر على أرض الواقع حتى الآن، خصوصاً من دولة بحجم الصين التي كانت قد تعهدت من قبل ببذل جهد لتقريب وجهات النظر بين القاهرة وأديس أبابا، باعتبارها من كبار شركاء النظامين. مع العلم أن بكين أدت دوراً لإجهاض المساعي المصرية لتدويل القضية الصيف الماضي، لكنها حالياً تتذرّع بوباء كورونا والخلافات مع الولايات المتحدة، لتبرير تأخر طرح حلول واقعية للأزمة.
وبحسب المصادر، فإن الصين تنتظر تحركاً واضحاً من الإدارة الأميركية الجديدة إزاء الملف، لتتخذ خطوة مختلفة عن السياق الأميركي. لكن ما يزيد الأمر تعقيداً، لجهة التوقيت، هو أن إدارة بايدن ما زالت تنأى بنفسها عن التدخل في الأزمة، وتولي اهتماماً أكبر بالأوضاع الداخلية الإثيوبية. وقد بدأ أركان الإدارة اهتمامهم في الصراع حرب إقليم تيغراي، خصوصاً بسبب العلاقة المتينة التي تجمع مسؤولين ودبلوماسيين سابقين من هذه القومية مع شخصيات نافذة في إدارة بايدن، تحديداً وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومديرة مجلس السياسات الداخلية سوزان رايس.
وعلى إثر هذه التعقيدات، صدرت تكليفات للمسؤولين في وزارة الري المصرية بالاستعداد للتعامل مع الملء الثاني للسد، باعتباره أمراً واقعاً، وبغض النظر عن استئناف المفاوضات من عدمه، وفق ما كشفه مصدر مطلع في وزارة الري، وباستمرار العمل من دون توقف في مشروع تبطين الترع الذي سيدخل قريباً مرحلته التنفيذية الثانية. وطلبت السلطات تحسين أدوات الاستفادة من الآبار والمياه الجوفية في المناطق الأكثر احتياجاً للمياه، والرقابة المشددة على المناطق التي تزرع بها المحاصيل الأكثر استهلاكاً للمياه.
كما تعد الوزارة حالياً سلسلة من ورش العمل ستضم أكاديميين ومتخصصين وأعضاء في المعاهد المختلفة بالوزارة وقيادات بالهيئة الهندسية للقوات المسلحة، لبحث الخطوات التنفيذية لمجموعة من المشاريع التي اقتُرح تنفيذها خلال سلسلة اجتماعات سابقة عقدت في خريف العام الماضي، لتقليل الآثار السلبية لإنشاء السد، مع ارتفاع سقف الإنفاق المادي عليها، والذي سيتم بمساعدات أجنبية وعربية.
وسبق أن ذكرت مصادر متابعة لـ"العربي الجديد" أن من المشاريع المعروضة، إنشاء منظومة مصرية لتحسين جودة المياه التي من المنتظر أن تتأثر كثيراً بالسلب، نتيجة تخزينها لفترات طويلة واستخدامها في إثيوبيا والسودان بعد إتمام إنشاء السد وتشغيله. مع العلم أن مصر كانت منذ إنشاء سد أسوان، مطلع القرن العشرين، تستفيد من تخزين مياه ذات نوعية متميزة ومحمّلة بعناصر مفيدة للتربة. وهو الواقع الذي سيختلف بمجرد تشغيل السد بسعته القصوى، تحديداً بعد تنفيذ السودان مخطط رفع كفاءة سدوده. وتحاول مصر تطبيق مقترحات بتوسيع مفيض توشكى خلال فترة الرخاء، وزيادة الفيضان المتوقع استمراره لسبع سنوات تقريباً بدأت في العام الحالي. كما تطرح مصر أفكاراً لزيادة القدرة التخزينية للسدود الإقليمية الصغيرة في المحافظات الرئيسية.
الصين تنتظر تحركاً واضحاً من الإدارة الأميركية الجديدة قبل التحرّك
وفي منتصف أغسطس/آب الماضي، كشفت مصادر حكومية مصرية بمجلس الوزراء ووزارة الري لـ"العربي الجديد" عن اتفاقات وشيكة بين مصر والصين ومع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، كل على حدة، على مجموعة من القروض والمنح "التي سيظل قسم كبير منها سرياً غير معلن". وسيتم تخصيص القروض والمنح لمشاريع عدة ورفع كفاءة شبكة الري ومياه الشرب، وتحسين استفادة مصر من كميات المياه الواردة إليها، وتنقيتها وجلب نظم حديثة لتحسين الجودة والتحلية والمعالجة، بقيمة إجمالية ستفوق 350 مليار جنيه مصري (22.4 مليار دولار)، تمثل النسبة الأكبر من مبلغ إجمالي قدره 430 مليار جنيه (27.5 مليار دولار) لتنفيذ جميع المشاريع الخاصة بهذا المجال خلال 10 سنوات، على أن يتم تمويل 50 ملياراً (3.2 مليارات دولار) أخرى من النسبة الباقية من المساعدات والقروض الإماراتية والسعودية. ويبقى حوالي 30 مليار جنيه (1.9 مليار دولار)، سيتم تمويلها عن طريق طرح بعض المشاريع ذات العائد من تلك الحزمة لدخول القطاع الخاص مع الشركات التابعة للقوات المسلحة. وكشفت التقارير الفنية بدء خروج آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية على مراحل.
وسبق أن تحفّظ الرئيس عبد الفتاح السيسي على توضيح موقف مصر الحالي في سد النهضة، مشدّداً على أن "مصر متمسكة بمسار المفاوضات الحالي". وأضاف، في تصريحات تلفزيونية أدلى بها في 6 فبراير/شباط الحالي، أن التفاوض ليس هو الحل الوحيد، بل يتكامل مع عدد من الإجراءات الأخرى المهمة، مثل مشاريع تبطين الترع ورفع كفاءة محطات الرفع، لزيادة استفادة مصر من الكميات التي تصلها من مياه النيل.
وفي يوليو/تموز الماضي، قال السيسي، خلال حضوره افتتاح مشروع مدينة الجلود بمنطقة الروبيكي، إن "مصر تخوض معركة تفاوض بشأن سد النهضة، لكنها ستطول". وأضاف أنه "يطمئن المصريين بسبب عدالة قضيتهم، ولأن هذا النيل كان هبة الله إليهم منذ العصور القديمة، ولا يستطيع أحد منعهم من الاستفادة منه"، معتبراً أن "العمل هو سلاح المصريين القلقين من سد النهضة". واستطرد: "انتو قلقانين وهذا حقكم المشروع والطبيعي لأن النيل هو حياتنا، وأنا معكم، وأنا أطمئنكم. ومن يقلق يجب عليه العمل أكثر ليكون قادراً وقوياً". وانتقد من يدعو للعمل العسكري أو التخريبي للسد قائلاً: "مع احترامي لكل الآراء، أنت قلقان ماتهددش حد وماتتكلمش كتير بكلام مالوش لزوم"، موضحاً أن مصر تؤمن بحق الآخرين في التنمية "مثلها" وفي نفس الوقت اقتسام جميع الأطراف للأضرار المتوقعة فيما بينهم.