استمع إلى الملخص
- **تغير مواقف النخبة السياسية**: التغير يشمل شخصيات بارزة مثل وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، مما يعكس تراجع ريادة اليسار وحركة السلام في معارضة التجييش.
- **معارضة داخلية وتحديات مستقبلية**: هناك أصوات معارضة داخل حزب شولتز، مثل رولف موتزينيتش، وشخصيات تراهن على استياء الشعب من سباق التسلح، مما قد يؤثر على نتائج الانتخابات المقبلة.
تشهد ألمانيا بقيادة المستشار أولاف شولتز تحولاً نحو تمرير قبول سباق تسلح ما كان ممكناً خلال ثمانينيات القرن الماضي. فهذه المسارعة لتبرير العسكرة تقدم صورة عن تغيرات تفكير النخبة السياسية الألمانية، سواء في يسار الوسط أو بعض اليسار المنبثق أصلاً من حركة السلام الألمانية الغربية في السابق.
في عام 1983، وحين كان شولتز في عز شبابه، ومحسوباً على يسار حزبه الاجتماعي الديمقراطي، ظهر معارضاً لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولنشر الأميركيين الصواريخ طويلة المدى في ألمانيا الغربية، لمواجهة صواريخ أس أس 20 التي نشرها الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة منتصف وأواخر سبعينيات القرن الماضي.
شارك الشاب شولتز وقاد في العاصمة السابقة والمؤقتة بون (قبل عودتها بعد الوحدة إلى برلين) أكبر "مظاهرة سلام" في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. لكن بعد أربعين عاماً يبدو أن الرجل قد تغير كثيراً، ولم يعد مؤمناً بما قاله في شبابه عن أنه "ليس من الممكن الاستمرار في أن تصبح ألمانيا مكتظة أكثر فأكثر بالشيطان النووي". اليوم بوصفه مستشاراً يستبدلها بالقول إنه "لا يمكنك إدارة كل شيء بالدفاع، بل عليك أيضاً منع الآخرين من الهجوم"، لتبرير اتفاقية الصواريخ مع أميركا على هامش قمة الناتو الأخيرة في واشنطن.
وبكلمات أخرى، باتت نظرية "الردع" ضد روسيا تشكل أرضية لحماسة سباق تسلح معاكس لمثالية نخبة الثمانينيات، التي سبق أن عبّر عنها شولتز ورفاقه في حركة السلام. ومع أن الصواريخ الأميركية، التي لن تنشر قبل 2026، غير مزودة برؤوس نووية، إلا أنها ستظل قادرة بسرعتها التي تفوق سرعة الصوت على ضرب موسكو نظرياً، وتراوح مدياتها بين 1600 و3 آلاف كيلومتر، كصواريخ دارك إيغل.
التغير أبعد من شولتز
ووسط حمى التسلح لا يبدو أن شولتز وحده من يتغير وينقلب على نفسه، من خارج طبقة يمين الوسط التقليدية، في الديمقراطيين المسيحيين والأحرار. فعلى عكس ما كان يجلبه نشر صواريخ أميركية وأطلسية في البلد من مظاهرات واحتجاجات في أثناء الحرب الباردة، يبدو أن أقطاب القوى التي شكلت سابقاً حركة السلام باتت منخرطة في تسويق العسكرة. فاليسار التقليدي، الآتي من حركة السلام الألمانية، يدافع بحرارة عن التسلح. وذلك ما أقدمت عليه وزيرة الخارجية، أنالينا بيربوك، بذريعة أن روسيا "تنتهك وتلغي اتفاقيات نزع السلاح منذ سنوات".
وشددت بيربوك، وفقاً لمجلة "دير شبيغل"، على أن روسيا طورت أسلحة محظورة يمكن تذخيرها برؤوس نووية، ونصبتها على بعد أقل من 600 كيلومتر من برلين في جيب كالينينغراد، محملة بوتين مسؤولية "إثارة أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945". وبرأيها، ينبغي إدراك أن "مبدأ الأمل لن يحمينا من (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".
وتشير ملامح التبدل الحاصل إلى تراجع ريادة اليسار وحركة السلام لمعارضة التجييش، حيث يحمل رايتها اليوم اليمين المتشدد والشعبويون، وغيرهما، لكونها قوى تناضل من أجل السلام. هذا بالطبع إلى جانب أن الشيوعيين ويساراً تاريخياً آخر يعارض تماماً هذا السباق نحو التسلح.
حزب البديل لأجل ألمانيا، في أقصى اليمين، يرفض اتفاقية الصواريخ والتصعيد، ويربطها أحد أبرز المتشددين فيه، زعيم فرع الحزب في تورينغن، بيورن هوكه، بانتخابات ثلاث ولايات في شرق البلد في سبتمبر/أيلول القادم، التي يعتبر أنها "ستحدد ما إذا كانت البلاد ستترك مسار الحرب في المستقبل المنظور، أو ستواصل في اتجاه تصعيد الحرب". بل إن الخشية من التصعيد تضع المنشقة عن حزب "دي لينكه" اليساري، سارة فاغنكنشت، من خلال حزبها الجديد "تحالف سارة فاغنكنشت" (بوندنيس Bündnis) المصنف على أنه يسار شعبوي، في صف "البديل" المتشدد في رفضها اتفاقية الصواريخ والتسابق نحو التسلح. ويلعب الطرفان على وتر الإرهاق الذي ينتشر في صفوف الألمان، وخصوصاً في شرق ألمانيا، حيث يعتبرون أن انخراط بلدهم بدعم أوكرانيا وسباق التسلح يأتي على حساب جيوبهم ورفاهيتهم.
وعليه، تراهن فاغنكنشت على تراجع حزب شولتز في الاستطلاعات إلى نحو 14 إلى 16 في المائة قبل عام من الانتخابات التشريعية (سبتمبر2025)، معتبرة تصويت الشهر المقبل لحزبها "تصويتاً للدبلوماسية والسلام، وضد الخطط الصاروخية للأميركيين وحكومة إشارة المرور (كناية عن ألوان الأحمر والأصفر والأخضر للائتلاف الحكومي)". ويؤمن المعسكران، كما يفعل غيرهم من المعسكر الأوروبي نفسه بأن حلف الناتو والغرب يتقاسمان المسؤولية عن الحرب، وبأن التفاوض مع بوتين السبيل الوحيد للسلام في القارة.
ذلك لا يعني أنه لا توجد أصوات معارضة لسابق التسلح حتى في صفوف حزب شولتز. حيث يعتبر رئيس المجموعة البرلمانية للحزب في البوندستاغ رولف موتزينيتش أحد أبرز تلك الأصوات، وقد شدد نهاية الشهر الماضي على محطة "زد دي أف"، على أن الاتفاقية يمكن أن تؤدي إلى "خطر تصعيد عسكري غير مقصود"، داعياً البرلمان إلى مناقشها بعد العطلة الصيفية.
إجمالاً، تبدو لافتةً، في ذات السياق، مراهنة أقصى اليمين الألماني على احتمالية عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لتعريض الاتفاقية الأميركية-الألمانية لانتكاسة، آملين كبقية المعسكر الترامبي الأوروبي فتح قنوات مع موسكو للتوصل إلى السلام، بناءً على تجربة سابقة مع سياساته الألمانية ــ الأوروبية منذ 2017، حيث أثار شكوكاً حول رسوخ علاقة أميركا بأوروبا واستعداد واشنطن الدائم للدفاع عنها. وفي المقابل، لا يخفي معسكر شولتز وبيربوك، وحتى الليبراليون والديمقراطيون المسيحيون، رغبتهم في فوز كامالا هاريس.