أوكرانيا: نموذج خاص أم حياد على الطريقة النمساوية أو السويدية؟

مستقبل أوكرانيا: نموذج خاص أم حياد على الطريقة النمساوية أو السويدية؟

16 مارس 2022
انطلقت المفاوضات الروسية الأوكرانية في 28 شباط (مكسيم جوتشك/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

تزامناً مع إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا أسبوعها الثالث دون تحقيق أهدافها الأساسية التي حددها الكرملين، استبقت روسيا الجولة الرابعة من المفاوضات الروسية الأوكرانية، حول وقف الحرب والتوصل إلى تسوية سلمية، بإعلان رئيس الوفد الروسي المفاوض، فلاديمير ميدينسكي، أن أوكرانيا عرضت خياراً يتمثل بحياد أوكرانيا وفق النموذج السويدي أو النمساوي، وفي المقابل نفى المفاوض الأوكراني، ميخائيلو بودولياك، تقديم وفد بلاده هذا الطرح، مشدداً على أن الخيار يجب أن يكون أوكرانياً.

وقال رئيس الوفد الروسي، فلاديمير ميدينسكي، عن المحادثات بين البلدين، إن هناك "تقدماً مؤكداً في عدد من المواقف"، لكن ليس على الإطلاق، وكشف أن الطرفين يناقشان "قضايا تتعلق بالحفاظ على الوضع المحايد لأوكرانيا وتطويره، ونزع السلاح من أوكرانيا"، إضافة إلى القضايا المتعلقة بحجم الجيش الأوكراني.

وذكر ميدينسكي أن الجانب الأوكراني عرض "نسخة نمساوية أو سويدية من دولة محايدة منزوعة السلاح، لكنها في الوقت نفسه دولة تمتلك جيشاً وقوات مسلحة بحرية"، ولفت إلى أن "انسحاب أوكرانيا من الاتحاد السوفييتي في عام 1991، كان بشرط الحياد، المثبت في إعلان الاستقلال الأوكراني"، وشدد على أن القضية الرئيسية للجانب الروسي تبقى تحديد وضع شبه جزيرة القرم ودونباس، إضافة إلى قضايا إنسانية أخرى، مثل اجتثاث النازية وحماية حقوق السكان الناطقين بالروسية ووضع اللغة الروسية.

وخرجت تصريحات ميدينسكي عن النمط السائد منذ انطلاق المفاوضات بين الطرفين في 28 فبراير/ شباط الماضي، إذ عادة ما اكتفى الجانبان بإشارات إلى سير المفاوضات وصعوبتها أو إحراز تقدم فيها، من دون الغوص في التفاصيل ومقترحات محددة.

وسارع مستشار مدير مكتب الرئيس الأوكراني وعضو وفد كييف في المحادثات، ميخائيل بودولياك، إلى رفض التصريحات الروسية على قناته في تطبيق "تلغرام"، وقال: "بطبيعة الحال، نفهم محاولة شركائنا أن يظلوا أصحاب المبادرة في العملية التفاوضية، ولهذا السبب تأتي تصريحات عن نموذجي الحياد السويدي أو النمساوي"، ومع إشارته إلى أن "أوكرانيا حالياً في حالة حرب مباشرة مع روسيا"، شدد بودولياك على أنه "لا يمكن أن يكون هناك أي نموذج سوى النموذج الأوكراني، وذلك حصراً مع تقديم ضمانات أمنية مثبتة قانونياً، ولا يمكن أن يكون هناك أي نموذج أو خيار مختلف".

وأوضح بودولياك أن الضمانات الأمنية المطلقة تقضي "بأن الدول التي تقدمها (الضمانات) تلتزم، في حال تعرّض أوكرانيا لهجوم من الخارج، الانخراط في النزاع على نحو نشط وتقديم كل الإمدادات العسكرية المطلوبة إلى كييف"، بالإضافة إلى "ضمانات ثابتة بشأن حظر الطيران" فوق أوكرانيا في هذا السيناريو، وشدد المسؤول الأوكراني على أن بلاده "لم تهاجم ولم تخطط لمهاجمة جيرانها"، وخلص إلى أن كييف ترغب في أن "تكون لديها مجموعة قوية من الحلفاء مع ضمانات أمنية واضحة".

حل وسط  

في المقابل، سارع الكرملين، الذي يتعرض لضغوط دولية متزايدة لإيقاف الحرب، إضافة إلى المخاوف من ازدياد النقمة الشعبة في الداخل احتجاجاً على الحرب، إلى دعم خيار حياد أوكرانيا وفق نموذجي السويد أو النمسا، وذكر المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن هذا الخيار يمكن أن يكون حلاً وسطاً، موضحاً أن النموذج النمساوي والسويدي لطبيعة الدولية المحايدة ينطلق من رفض نشر قواعد دول أجنبية، ولكنه يسمح للدول بامتلاك قواتها المسلحة الخاصة.

وكشف وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، في حوار مع محطة "إر بي كا" التلفزيونية أن المحادثات مع كييف "تمضي قدماً ببطء، لكن هناك بعض الآمال في التوصل إلى حل وسط"، مشيراً إلى أن وفدي التفاوض يبحثان بجدية مسألة الوضع الحيادي للدولة الأوكرانية، واعتبر أن هذه المسألة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بطلب موسكو تقديم ضمانات أمنية إليها، وأكد لافروف أن بلاده منفتحة على أي خيارات ممكنة وأي ضمانات أمنية مقبولة للجميع باستثناء توسع الناتو، وعلى عكس ميدينسكي دعا لافروف إلى منح المفاوضين "فرصة لمواصلة عملهم بهدوء أكثر دون تأجيج موجة جديدة من الهستيريا".

ومن المعلوم أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أعلن في 24 من الشهر الماضي أن هدف العملية العسكرية الروسية يكمن في ضمان حيادية أوكرانيا ونزع أسلحتها، والقضاء على "النازيين الجدد" وحماية المواطنين من العرقية الروسية والناطقين باللغة الروسية، إضافة إلى منع أوكرانيا من تطوير أسلحة نووية، وفي وقت سابق، قدّمت روسيا مشروعي معاهدتين للولايات المتحدة طالبت فيهما بعدم السماح بضم أوكرانيا إلى الحلف، وعدم نشر أي أسلحة هجومية يمكن أن تهدد روسيا في أوكرانيا وأوروبا.

سُلّم النزول لبوتين 

وبصرف النظر عن صدق الروايتين، الروسية والأوكرانية، من الواضح أن الجانب الروسي يريد بعث رسائل إلى الداخل الروسي والعالم، تؤكد أنه منفتح على تسوية سياسية لإنهاء الحرب على أوكرانيا، من دون التنازل عما حققته آلته العسكرية في الأسابيع الثلاثة من تقدم على الأرض.

وربما راهن الكرملين على أن يشكل خيار حياد أوكرانيا سُلّماً يستطيع بوتين النزول عبره عن السقف العالي الذي حدده، ويفتح على مفاوضات لرفع العقوبات القاسية ووقف الحرب، وسط تقديرات بأن الكلفة البشرية عالية جداً، وسترتفع في حال الانتقال إلى حرب الشوارع واحتلال المدن.

وفي الوقت ذاته ينهي موضوع الحياد حرج الجانب الغربي الذي لا يملك إلا سلاح العقوبات الاقتصادية على روسيا لمنع أحلامها الإمبراطورية في حال موافقة أوكرانيا، لكن العقدة تبقى في تحديد مصير إقليمي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليين، وإقرار النخب الأوكرانية بأن القرم لن يعود إلى السيادة الأوكرانية أبداً.

وإذا وافقت أوكرانيا والغرب، فمن غير المؤكد ألا يعيد بوتين الكرة مع أوكرانيا أو غيرها إن رأى أن موازين القوى تغيرت لمصلحته، فالحرب الأخيرة بُنيت على تقديرات بأن الولايات المتحدة والغرب باتا في أضعف مراحلهما، بعد الانسحاب من أفغانستان، وعلى فرضية الفرقة بين طرفي الأطلسي وفي داخل القارة الأوروبية ذاتها، وفي الولايات المتحدة بعد حقبة دونالد ترامب، والمؤكد أن بوتين سيعيد حساباته في شكل أدق في أي حرب مقبلة.

الحياد السويدي  

ويُشار إلى أن السويد تبنت منذ نحو مئتي عام خيار الحياد والتركيز على بناء الدولة الداخلية، وخاضت السويد حرب الشمال في مطلع القرن الثامن عشر مع روسيا انتهت بخسارة مناطق واسعة من بحر البلطيق لمصلحة القيصر بطرس الأكبر، ولكنها عادت للسيطرة على المناطق التي خسرتها لاحقاً.

وبدأ حياد السويد عملياً إثر خسارتها فنلندا في 1809، ومنذ ذلك الحين لم تشارك السويد في أي معارك خارجية، وركزت جهودها على تطوير بنيان الدولة الوطنية، وتوفير الظروف المناسبة لمواطنيها، وجنّب حياد السويد البلاد الدمار في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وطالما امتدحت روسيا "التجربة السويدية"، في الحياد، لكن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات كبيرة، خصوصاً بعدما بدأت السويد بتطوير قدراتها العسكرية بعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم في 2014 في شكل لافت، وزادت النفقات الدفاعية، وعادت الخدمة العسكرية وفكرة الدفاع الشامل.

وعلى الرغم من حيادها، تنتج السويد معظم أنواع المعدات الدفاعية لسلاح المشاة والعربات وناقلات الجند، وتنتج مصانعها دبابات من أنواع مختلفة بترخيص من ألمانيا وفنلندا، وأسلحة مضادة للدروع والدبابات، وتتعاون مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي في إنتاج طائرات مسيّرة من دون طيار.

وتملك السويد خمس غواصات في القوات البحرية، وتسعة طرادات، ومثلها من كاسحات الألغام، ونحو 150 زورقاً بحرياً للإنزال، و90 سفينة حربية، وتعمل على تطوير أنواع جديدة من الغواصات. وتتعاون السويد مع الناتو من دون الدخول فيه، والاتحاد الأوروبي لضمان أمنها، وفي الأسابيع الأخيرة ترددت أنباء عن نية السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف الناتو.

النموذج النمساوي  

بدأ نموذج حياد النمسا في عام 1955، عندما أعلنت أنها دولة محايدة، وبنت سياستها الخارجية على هذا الأساس، وبعد مشاركتين مدمرتين في الحربين العالميتين، كلفتها خسارة معظم مساحة الإمبراطورية المجرية النمساوية، رفضت النمسا الانجرار إلى التحالفات الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، وما زالت ترفض الدخول في تحالفات عسكرية، ونشر قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها، والمشاركة في أي حروب، وتدعم النمسا بنشاط الجهود الدولية في مجال نزع السلاح وبناء الثقة والتعاون بين الدول.

عملياً سعت النخب النمساوية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى تكريس مبدأ الحياد، لكنها أجبرت على الانجرار إلى الحرب العالمية الثانية، بعدما عارضت فرنسا وقوى أوروبية تثبيت وضع الحياد، ما أدى إلى صعود قوى قومية انضمت إلى ألمانيا وحاربت مع أدولف هتلر جنباً إلى جنب.

وبعد الحرب، رفضت النمسا التحول إلى ورقة مساومة بين الاتحاد السوفييتي الذي ساهم في تحرير معظم أراضيها، ولم تنضم إلى القوى الغربية التي سيطرت على بعض أراضيها، وألهمت تجربة سويسرا القادة النمساويين للتركيز على الحياد بضمانات قانونية مع التركيز على بناء الدولة وازدهارها، وبعد سنوات من محاولات جذبها احترمت إرادتها من قبل جميع القوى وثُبّت وضع الحياد قانونياً بعدما تنازلت عن كل طموحاتها الإمبراطورية، بعدما كانت مهددة بالتقسيم كما حصل مع ألمانيا.

وحسب خبراء القانون الدولي، فإن وضع الدولة المحايد لا يحرمها الحق في صدّ العدوان الأجنبي، سواء بشكل مستقل أو بمساعدة الدول الأخرى على أساس ميثاق الأمم المتحدة، وبالإضافة إلى النمسا والسويد، اختارت عدة دول أوروبية الحياد مثل إيرلندا ومالطا وليختنشتاين وفنلندا وسويسرا في أوروبا، وفي المحيط السوفييتي السابق لم تنضم تركمانستان ومولدافيا إلى تحالفات عسكرية مع روسيا أو الناتو.