ثلاثون سنةً مرّت على توقيع اتّفاقية أوسلو بين قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، فيها اعترفت المنظّمة "بشرعية" وجود الاحتلال على الأراضي المحتلة في عام 1948، وتخلت، عبر هذه الاتّفاقية، عن ميثاقها الوطني، الذي جردته من مبدأ الكفاح المسلّح. كلّ هذا مقابل محض "تعهداتٍ برعايةٍ دوليةٍ" لتأسيس الظروف الملائمة لقيام سلطة حكمٍ ذاتيٍ انتقاليةٍ، تتحوّل بالتدريج إلى "دولةٍ" مستقلةٍ، تعيش "بسلامٍ" إلى جوار "دولة" الاحتلال!
بعد ثلاث عقود على توقيع هذه الاتّفاقية، التي تقرر بموجبها تأجيل مفاوضات "الحلّ النهائي" بشأن القدس، والمستوطنات، وعودة اللاجئين، لا يزال عدد المستوطنات يتضاعف على نحوٍ مستمرٍّ ومتسارعٍ، وفوق هذا يواصل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، المضي في مشروع ضمّ الضفّة الغربية، الذي أعلنه رسميًّا عام 2000، بعد بضعة أشهر من إعلان ما يسمى بـ "صفقة القرن"، والتي تقوّض بدورها أيّة إمكانيةٍ واقعيةٍ لبناء الدولة الفلسطينية!
أما في ما يتعلق بالقدس، فلا يزال الاحتلال يمعن في سياساته الهادفة إلى تهجير سكانها، لجلب المزيد من المستوطنين، وكانت آخر أكبر جرائمه في هذا الصدد، محاولته مصادرة منازل أهالي الشيخ جراح قبل عامين، والاقتحامات المستمرّة لباحات الأقصى، وكذلك ما يسمى بمسيرات الأعلام، التي تقودها المنظّمات الإرهابية، بحماية جيش الاحتلال. وفي ما يتصل بحقّ عودة اللاجئين، فقانون "يهودية الدولة"، الذي أقرّه الكنيست عام 2018، يؤكد غياب أيّة نيةٍ لدى الاحتلال لإقرار هذا الحقّ. ولا ننسى أنّ رئيس سلطة رام الله محمود عباس نفسه كان قد صرّح عام 2014 بأنّه لا يريد "إغراق إسرائيل باللاجئين الفلسطينيين"!
مسألة الدولة المستقلة، وقضايا "الحلّ النهائي"، فلم تعد حتّى مجرد حبرٍ على ورق، بل باتت أمرًا يستحيل تحقيقه عبر سياسات التفاوض
إذًا، الذي تحقق خلال 30 سنةً من توقيع هذه الاتّفاقية، هو استمرار استيلاء الاحتلال على المزيد من الأراضي، عبر سياسات الأمر الواقع، وانتزاع تنازلٍ من قيادة سلطة رام الله يتناقض مع حقّ العودة، ومواصلة محاولات تهويد القدس، وتهجير سكانها الشرعيين. أضف إلى هذا، خلقُ متغيراتٍ جديدةٍ على الأرض تجعل فرصة بناء دولةٍ فلسطينيةٍ ضربًا من ضروب الهذيان!
الشيء الوحيد الذي جنته القيادة اليمينية الفلسطينية من هذه الاتّفاقية، هو خلق ما يمكن تسميته بالنادي السياسي الاقتصادي السلطوي، الذي تربطه مصالح ماليةٌ مع دولة الاحتلال، ويتمتع أعضاؤه ببعض المزايا الدبلوماسية والألقاب السياسية المفرغة من دلالاتها الحقيقية. وفي المقابل يتوجب على أعضاء هذا النادي، "القيادة السلطوية"، تولي مهمة قمع المقاومة، ومطاردة النشطاء وزجهم في السجون، وتبادل المعلومات الأمنية، والتبليغ عن أيّ "تهديدٍ" يعرّض أمن الاحتلال للخطر!
سلطةٌ ذاتيةٌ يقتصر دورها على التنسيق الأمني مع الاحتلال، هذا ما تمخضت عنه اتّفاقية أوسلو. أما مسألة الدولة المستقلة، وقضايا "الحلّ النهائي"، فلم تعد حتّى مجرد حبرٍ على ورق، بل باتت أمرًا يستحيل تحقيقه عبر سياسات التفاوض، لتقديم المزيد من التنازلات، التي لا تنتهي، دون أيّ مقابلٍ حقيقيٍ! هذه باختصار هي نتيجة مقاربة "حلّ الدولتين"، التي اعترفت "بشرعية الاحتلال"، وتخلت عن مبدأ الكفاح المسلّح المستمر، والمقاومة بكلّ أشكالها، حتّى تحرير كامل التراب الفلسطيني. الوجود المحض للاحتلال الصهيوني على أيّة بقعةٍ من أرض فلسطين، يعني مواصلة مشروع تصفية القضية الفلسطينية. هذه هي بكلّ بساطةٍ المعادلة التي تفرضها المعطيات الواقعية. القضية الفلسطينية في جوهرها هي قضية تحريرٍ، وليست مجرد بناء دولةٍ سلطويةٍ.