عندما تسلّم الرئيس الأميركي جو بايدن السلطة قبل ثلاث سنوات، أعلن بنبرة ملؤها الحماسة أنّ "أميركا عادت لتحمّل مسؤولياتها الدولية بعد السياسة الانعزالية التي انتهجها سلفه دونالد ترامب"، لكنّ واشنطن تجد نفسها اليوم في عزلة دولية متزايدة بسبب دعمها الراسخ لإسرائيل في حربها ضدّ حركة حماس.
ومنذ بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة إثر هجوم غير مسبوق، شنّته كتائب القسام على مستوطنات غلاف غزة انطلاقاً من قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اضطرت واشنطن أكثر من مرة لأن تقف وحدها في المحافل الدولية للدفاع عن حليفتها.
وفي مجلس الأمن الدولي على سبيل المثال، استخدمت الولايات المتّحدة مرّتين متتاليتين حق النقض (الفيتو) لمنع صدور قرارين يدعوان إلى "وقف إطلاق نار إنساني" في غزة، لكنّ الدولة الأقوى في العالم خرجت، الجمعة، على استحياء، من عزلتها في مجلس الأمن الدولي بقرارها عدم وأد قرار يدعو إلى إدخال مساعدات إنسانية "على نطاق واسع" إلى القطاع.
وخلافاً للموقف الذي اتّخذه بعض من أقرب حلفائها، مثل بريطانيا وفرنسا واليابان التي صوّتت لصالح القرار، امتنعت الولايات المتّحدة عن التصويت، وكذلك فعلت روسيا.
وقبل ذلك بأسبوع في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم تجد الولايات المتّحدة بين سائر شركائها الأوروبيين سوى النمسا وجمهورية التشيك في التصويت ضدّ قرار يدعو إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة.
ولا ينفكّ هذا الوضع ينعكس سلباً على صورة الولايات المتحدة في العالم، وتعقيبا على ذلك، تقول ليزلي فينجاموري، الخبيرة في مركز تشاتام هاوس للأبحاث في لندن: إنّ "الطريقة التي يُنظر بها إلى كلّ هذا في بقية العالم هي أنّ الولايات المتّحدة تهتمّ بالإسرائيليين والأوكرانيين، وتعير اهتماماً أقلّ للشعوب غير الغربية".
وخلافاً لسلفه الجمهوري الذي دعم إسرائيل من دون أيّ تحفّظ، فقدّ بايدن صبره أكثر من مرة مع الدولة العبرية، إلى حدّ أنّه أخرج إلى العلن خلافاته مع حكومة بنيامين نتانياهو.
وفي معرض دفاعه عن الحرب التي تخوضها إسرائيل ضدّ حماس، حضّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن العالم على ممارسة ضغوط على الحركة الفلسطينية وليس على إسرائيل فحسب، مذكّراً بأنّ فتيل هذه الحرب أشعلته حماس.
وصبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شنّت حماس هجوماً غير مسبوق على إسرائيل، قُتل فيه حوالى 1140 شخصاً "معظمهم من المدنيين"، بحسب حصيلة أعدتها وكالة فرانس برس استناداً إلى إحصاءات رسمية إسرائيلية.
وردّت إسرائيل على هذا الهجوم بإطلاق حملة عسكرية جوية وبرية في قطاع غزة أسفرت، بحسب حكومة قطاع غزة، عن أكثر من 20 ألف قتيل، غالبيتهم من النساء والأطفال، وأكثر من 53 ألف جريح.
ويكرّر مسؤولو الإدارة الأميركية القول: إنّ "الضغط الذي يمارسونه على الحكومة الإسرائيلية من وراء الكواليس يؤتي ثماره، إذ وافقت إسرائيل على السماح بدخول صهاريج وقود إلى غزة وإعادة خدمة الإنترنت إلى القطاع وفتح المعابر".
لكنّ فينجاموري تقول إنّ هذه الرواية القائلة بأنّ بايدن "يعانق نتنياهو بينما يضغط في السرّ" على إسرائيل لا تستقيم لوقت طويل.
"انحياز أميركا التامّ لإسرائيل"!
وأظهر استطلاع للرأي أجرته منظمّة "المستقلّة" على عيّنة من الشعوب العربية، ونشرت نتائجه في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني، أنّ 7% فقط من المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن دور الولايات المتّحدة كان إيجابياً في الحرب بين إسرائيل وحماس.
وقبل 20 عاماً، أدّى "غزو العراق" إلى الإضرار بسمعة الولايات المتّحدة في العالم.
ويقول منقذ داغر، المسؤول في منظمة "المستقلّة": إنّ "أميركا كانت حتى وقت قريب لا تزال تمثّل صورة البلد الذي يجسّد الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، والكثير من القيم التي تليق بالحلم الأميركي الشهير، لكنّ سيل المشاهد المروّعة من غزة، التي يجرى تداولها بشكل جماعي على شبكات التواصل الاجتماعي، قلب الوضع رأساً على عقب".
ويعتبر داغر أنّ هذا الأمر أظهر للعرب "انحياز الولايات المتحدة التامّ للإسرائيليين وعدم احترامهم لحقوق الإنسان عندما يتعلّق الأمر بالفلسطينيين".
وأول من استفاد من هذا التحوّل في الرأي العام هو الصين وروسيا، لكنّ المستفيد الأبرز هو إيران.
وكثّفت الصين جهودها الدبلوماسية بشكل كبير في المنطقة، لكنّ إدارة بايدن حاصرتها من خلال حضّها على استخدام نفوذها لدى طهران، لوقف الهجمات التي يشنّها الحوثيون انطلاقاً من المناطق الخاضعة لسيطرتهم في اليمن على سفن تجارية في البحر الأحمر.
وفي حين أنّ الصين لديها وجود عسكري محدود في الشرق الأوسط، فقد أنشأت الولايات المتّحدة أخيراً تحالفاً عسكرياً انضمّت إليه أكثر من 20 دولة لحماية حركة السفن في المنطقة.
ويقول براين كاتوليس، من معهد الشرق الأوسط للأبحاث: "إنّ العديد من الدول العربية التي تندّد بسياسة واشنطن الخارجية "هي نفسها التي تستفيد من المنظومة الأمنية التي أرستها الولايات المتحدة".
ويضيف: "ألاحظ شكلاً معيّناً من الفصام في كثير من التصريحات الآتية من العالم العربي، فهم لا يستطيعون العيش معنا، لكنّهم لا يستطيعون العيش من دوننا أيضاً".
(فرانس برس)