أميركا اللاتينية: تغيير متعثّر في ديمقراطيات هشّة

24 ديسمبر 2021
ينوي بوريك إعادة توزيع الثروات في تشيلي (كريس سافيدرا فوغل/الأناضول)
+ الخط -

دقّ انتصار اليساري غابريال بوريك في الانتخابات الرئاسية في تشيلي أخيراً أجراس التغيير الجديد في أميركا اللاتينية، المرتبط بتفشي وباء كورونا وتأثيراته الاقتصادية.

ومع أن انتخابات تشيلي كانت الأخيرة في عام انتخابي طويل لدول أميركا اللاتينية من المكسيك وحتى الأرجنتين، إلا أنها شرّعت الأبواب أمام مزيد من التحوّلات، خصوصاً في البرازيل وكولومبيا، اللتين تشهدان انتخابات مفصلية في العام المقبل.

وأظهرت سانتياغو أن المسار الانتخابي في المنطقة، القابل أساساً للتغييرات المتناقضة، تأثر بتفشي وباء كورونا، ونتائجه السلبية اقتصادياً على مختلف الدول، تحديداً تلك التي تعاني من وضع سيئ مالياً واجتماعياً.

لكنه في الوقت نفسه سمح بإظهار قدرة الأحزاب والرؤساء الحاكمين على محاولة التفاعل مع الملفات المستجدّة، خصوصاً مع تحوّل الخطاب ضد التفاوت الطبقي وتوزيع الثروات إلى واجهة مركزية في المعارك الانتخابية.

ولم يكن بوريك متحمّساً في الأصل للترشح للرئاسيات، إلا أن الاحتجاجات التي اشتعلت في تشيلي في عام 2019، ثم بدء مراحل التدهور الاقتصادي العالمي، وجّهت الأنظار إلى الصراع الطبقي فيها، خصوصاً لجهة امتلاك 1 في المائة من السكان 25 في المائة من ثروات البلاد، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة.

وهيمن خطاب العدالة الاجتماعية على حملة بوريك، ليُصبح أصغر رئيس جمهورية في تاريخ بلاده وفي العالم حالياً، واعداً بتغيير جذري في توسيع الحقوق الاجتماعية وإصلاح نظامي المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية، فضلاً عن تقليص ساعات العمل الأسبوعية من 45 إلى 40 ساعة، وتعزيز الاستثمار في المجالات غير المضرة بالبيئة.


سقط لينين مورينو في الإكوادور على وقع رفعه الدعم عن الوقود

استفاد الرئيس التشيلي الجديد من الأزمات المتلاحقة، غير أن تطبيق أفكاره يبقى سيفاً ذا حدّين، على اعتبار أن تشيلي مرّت بحقبات تولّى رؤساء يمينيون ويساريون السلطة فيها، بعد انتهاء عهد الجنرال الانقلابي أوغوستو بينوشيه (1973 ـ 1990)، المولود من إعدام الرئيس الماركسي المنتخب ديمقراطياً، سلفادور ألليندي.

وظلّ التفاوت في توزيع الثروات قائماً. واستفاد بوريك من "وثائق باندورا"، التي تمّ تسريب نحو 12 مليون مستند فيها يكشف عن ثروات سرية، وتهرّب ضريبي، وفي بعض الحالات، غسيل أموال من قبل بعض زعماء العالم وأثريائه. وهي الوثائق التي تلاحق الرئيس السابق سيباستيان بينيرا.

سقوط لينين مورينو في الإكوادور

التحوّلات التشيلية، تُعتبر خاتمة لعام طويل من الانتخابات في الجوار. في الإكوادور، تعرّض الرئيس اليساري لينين مورينو، للحظات صعبة اقتصادياً، وهو المُنتخب في رئاسيات 2017، وفقاً لبرنامجٍ انتخابي مرتكز على العدالة الاجتماعية.

لكن مورينو أثار غضب بلاده، حين قرر إلغاء الدعم على الوقود في عام 2019، وباشر تنفيذ حزمة مالية تقشفية استجابة لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، يقضي بتقديم قرض قيمته 4.2 مليارات دولار لكيتو.

ولم يتمكن مورينو من كبح الاحتجاجات، التي ضربت صورته، خصوصاً مع دخول كورونا عنصراً ناخباً، فأبعد نفسه عن الترشح لولاية رئاسية ثانية في الربيع الماضي، فاز بها غييرمو لاسو، المنتمي إلى حزب من اليمين الوسط.

لاسو بات أسيراً لـ"وثائق باندورا" أيضاً، لكنها ستبدو أقلّ تأثيراً من خطوة أقدم عليها في 13 ديسمبر/كانون الحالي، حين فرض حالة "القوة القاهرة" على جميع عقود النفط، بما في ذلك الصادرات والواردات، بعد بروز تهديدات من تآكل التربة التي أفضت إلى إغلاق خطي الأنابيب في البلاد اللذين ينقلان الخام عبر جبال الأنديز. وستتسبب هذه الخطوة بأزمة للرئيس الإكوادوري، الساعي إلى التغلب على سنوات من ركود الإنتاج في بلاده.

التغيير وصل إلى البيرو مع انتخاب بيدرو كاستيو رئيساً، وهو عدا كونه من صفوف اليسار، فإنه من السكان الأصليين للبلاد. لم ينجح كاستيو على خلفية مواجهته نفوذ عائلة فوجيموري، يابانية الأصل، فحسب، بل بسبب تغلغل الفساد والتردّي الاقتصادي وإجراءات كورونا، التي أفضت إلى قيام تظاهرات دموية في عام 2020. كان فوز كاستيو نموذجياً في ليما، ومدعاة لفتح أبواب تصالحية.

وفي السلفادور، حافظت "جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني" على موقعها كقوة يسارية أساسية، في الانتخابات التشريعية في البلاد، وسط بحر من الأحزاب اليمينية.

وفي الأرجنتين، تحوّلت الانتخابات التشريعية الأخيرة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى استفتاء على السياسات الاقتصادية للرئيس اليساري ألبيرتو فرنانديز، الذي لم يتمكن من الخروج من الأزمة المستمرة منذ أكثر من عقدين، خصوصاً مع تفشي وباء كورونا، وهو ما قد يسمح للرئيس اليميني السابق، ماوريسيو ماكري، في الرهان على الرئاسيات المقررة في عام 2023.

وفي المكسيك، تقدم حزب "مورينا" اليساري في الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو/حزيران الماضي، لكنه محاصر من حزبين يمينيين، "العمل الوطني" و"الثوري المؤسساتي"، اللذين يضغطان باتجاه اعتماد خطوات أكثر انغلاقاً في البلاد.

وتخشى مكسيكو من تحوّل أزمة اللاجئين الذين يعبرونها باتجاه الولايات المتحدة، إلى أزمة في الداخل، بفعل السياسات المتشددة للإدارتين السابقة والحالية في واشنطن، لوقف تدفق المهاجرين.

وفي هندوراس، وضعت زيومارا كاسترو حدّاً لتنامي موجات يمينية فيها، بفوزها في الرئاسيات التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

نيكولاس مادورو يلتقط أنفاسه في فنزويلا

في فنزويلا، تمكن الرئيس نيكولاس مادورو من تفكيك المعارضة أولاً، ثم إحباط الدعم الدولي لرئيس البرلمان السابق، خوان غوايدو، الذي اعترفت 50 دولة برئاسته فنزويلا لسنوات.

واستفاد مادورو من انكفاء الأميركيين في الضغط على نظامه، بقوة كافية، سامحة له بالتقاط أنفاسه، وتمرير انتخابات تشريعية هادئة الشهر الماضي.

ولم يكن وباء كورونا هنا، سوى عنصر مساعد لكاراكاس، التي تدفق منها أكثر من 5.9 ملايين لاجئ إلى دول الجوار، وفقاً لأرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

أما في باراغواي، فلم تتغيّر الأوضاع السياسية، خصوصاً بعد استمرار حزبي "كولورادو" اليميني، والحزب "الليبرالي الراديكالي الأصيل"، المنتمي إلى الوسط، في هيمنتهما على الانتخابات البلدية، التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.


تحوّل كاستيو في البيرو إلى عنصر مواجهة لعائلة فوجيموري

في المقابل، أثار بقاء الرئيس دانيال أورتيغا على رأس السلطة في نيكاراغوا، غضباً أميركياً، خصوصاً بعد إعلان اصطفافه إلى جانب الصين، برفضه الاعتراف باستقلال تايوان.

وأورتيغا هو من أواخر جيل المقاتلين في "الجبهة الساندينية للتحرير الوطني" التي ثارت على نظام عائلة سوموزا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

وسبق له أن انتُخب رئيساً بين عامي 1985 و1990، ثم عاد إلى السلطة في عام 2007. وعلى الرغم من قمعه الاحتجاجات، واتهام خصومه له بالتزوير الانتخابي، إلا أن أورتيغا، المعتمد على ذراع عسكرية متشعّبة، مستمر بالإمساك بالسلطة.

ومن غير المتوقع وقوف قطار التغييرات عند هذا الحدّ، إذ تشهد كولومبيا انتخابات لن يشارك فيها الرئيس إيفان دوكي، لأن الدستور لا يسمح له بذلك.

وفي الانتخابات النيابية المقررة في 13 مارس/آذار المقبل، والرئاسية في 29 مايو/أيار المقبل، ستحضر الاتفاقيات مع "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك) في صناديق الاقتراع.

ولن تغيب الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في الربيع الماضي، ضد زيادة الضرائب وتعديل الرعاية الصحية وسقط فيها بين 26 قتيلاً وفقاً لأرقام الحكومة و75 قتيلاً وفقاً لمنظمات المجتمع المدني، عن الانتخابات.

وكشفت هذه الاحتجاجات، عجز حكومة دوكي عن مواكبة تفشي وباء كورونا وآثاره الاقتصادية، مفسحاً المجال أمام المزيد من التفسّخ في السلطة الكولومبية.

في البرازيل، يبدو لويس إيناسيو لولا دا سيلفا المعروف بـ"لولا"، في طريقه للعودة إلى السلطة في الانتخابات العامة والرئاسية المقررة في 2 أكتوبر 2022.

ويحظى لولا بدعم شعبي واسع، تكرّس بسبب السياسات الخاطئة للرئيس اليميني المتطرف، "ترامب البرازيلي" جايير بولسونارو، خصوصاً في الملفات الاقتصادية ومواجهة تفشي وباء كورونا.

عدا ذلك، فإن بولسونارو، عاد في بعض خطاباته إلى مرحلة 1964 ـ 1985، حين كان الحكم العسكري سائداً في برازيليا، مثيراً المخاوف حول إطاحة المسار الديمقراطي في البلاد.

ومع أنه لا يُمكن مقارنة التحولات الحالية في أميركا اللاتينية، بالمرحلة نفسها التي تلت الحرب الباردة (1947 ـ 1991) وسقوط الاتحاد السوفييتي، إلا أن "فورين بوليسي" ترى في تقرير صادر لها، الشهر الماضي، أن سلوكات قادة في المكسيك والبرازيل والسلفادور، لا توحي بتمدّد ديمقراطي، لجهة تفكيك وكالات حرية المعلومات، وإقالة قضاة في المحاكم العليا، ومحاولة عزل أو محاكمة المعارضين السياسيين.

وهو ما دفع 70 في المائة من الأميركيين اللاتينيين، إلى إبداء عدم رضاهم عن الطرق التي تعمل بها ديمقراطيات بلادهم، في استفتاء لمنظمة "لاتينوباروميترو"، ومقرّها تشيلي، في عام 2020.


تشهد البرازيل وكولومبيا انتخابات فاصلة في العام المقبل

 

مخاوف من اختراقات صينية في أميركا اللاتينية

وذكرت "فورين بوليسي" أن مثل هذه التحوّلات تسمح في اختراق صيني في تلك المنطقة، يُواجَه بطريقة أممية. فقد تمّ التوقيع على محمية بحرية جديدة خالية من الصيد من قبل كولومبيا وكوستاريكا والإكوادور وبنما، في قمة المناخ للأمم المتحدة في غلاسكو ـ إسكتلندا، الشهر الماضي. وشَكَت البلدان المذكورة، من "الصيد الجائر من قبل الأساطيل الصينية"، في مياههم.

الصين تحضر في البرازيل أيضاً، مع عجز برازيليا عن وضع حدّ لنفوذ "الجيل الخامس" من شبكة "هواوي" الصينية، بل سعت إلى استيلاد حل وسط بين المطلب الأميركي بإخراج الصينيين من البرازيل، وبين حاجة البرازيليين إلى شبكة اتصالات عصرية.

وأعلنت الحكومة البرازيلية أنها "ستدفع مقابل شبكة منفصلة عالية الأمان للعمليات الحكومية"، واعتبرت أنه "من المحتمل أن يتم بناؤها من قبل شركة نوكيا الفنلندية أو إريكسون السويدية"، لكنها في الوقت نفسه لم تستبعد "هواوي".

في الأرجنتين، تسعى الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى الإشراف على البرنامج النووي لبوينس أيريس. لا يعود السبب إلى نوايا أرجنتينية في صناعة أسلحة نووية، بل بسبب تغلغل الصينيين في البلاد، عبر إعلان المصارف الصينية، في أغسطس/آب الماضي، عن تمويل 85 في المائة من مفاعل نووي سيُبنى في ضواحي العاصمة الأرجنتينية، بين عامي 2022 و2028.

وتُثير هذه الخطوة قلق المجتمع الدولي من جهة، والأحزاب الأرجنتينية الرافضة للنفوذ الصيني من جهة أخرى.