كان يمكن أن تأخذ قضية الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي أقل بكثير من هذه الضجة والجدل، فقد سبقتها كثير من الشخصيات الأمنية والسياسية وناشطين فروا من الجزائر عبر تونس أو عبر البحر، وصولاً إلى فرنسا نفسها، بمساعدة أطراف أو بدونهم. وكان يمكن أن تُعالج هذه القضية ضمن مسارات أخرى أكثر هدوءاً، بدون الحاجة إلى هذا المستوى من التوتر الذي حدث في العلاقات بين الجزائر وباريس.
لكن، وطالما أن الأمر حدث، لدرجة أن "القطيعة وشيكة" (كما تقول الجزائر)، فإن هناك حلقة ما في القصة، تفرض البحث عن تفصيلات أخرى، غير الانشغال بالطريقة التي خرجت بها بوراوي من الجزائر أو من تونس، والأطراف المتدخلة فيها، وما إذا كان الأمر برمته يتعلق بفخ نُصب للجزائر، أم أنه طعم استطعمته لفرنسا لهدف، بدون أن تنتبه إلى العواقب.
إذا كانت القصة فخاً للجزائر، لدفعها نحو إعلان صدام سياسي مباشر مع المؤسسة الأمنية الفرنسية، وتفجير خط العلاقة التي بدأ تأسيسها وفقاً لالتزامات التعاقد السياسي الجديد، فإن الانفعالية التي تعاطت بها السلطات الجزائرية لم تكن في محلها، وبوراوي لم تكن سوى حد السكين الذي يمسك بمقبضه طرف ما في باريس.
وما يمكن فهمه هو أن زيارة قائد الجيش الجزائري الفريق سعيد شنقريحة إلى باريس قبل أسبوعين، انتهت بتحقيق مكاسب جيدة بالنسبة للجزائر، على مستوى القضايا الأمنية واللوجستية. ويبدو أن هذه النتائج لم تكن لترضي أطرافاً فرنسية، وهو ما عبّر عنه السفير السابق في الجزائر كزافيي دريانكور، بتصريحه لإذاعة فرنسية بأن "الجزائر ستقود فرنسا إلى الانهيار".
أما إذا كان الأمر طعماً لفرنسا، فإن باريس لم تكن بحاجة إلى ذلك، لإثبات عدم جديتها في إعادة بناء العلاقات مع الجزائر على الأسس التي حددتها تفاهمات أغسطس/ آب 2022. يكفي إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون في حواره الأخير مع "لوبوان" الفرنسية، رفضه "تقديم أي اعتذار للجزائريين عن حقبة الاستعمار"، ليستفز الشعور الجزائري، ويدل أن لا نيّة لباريس لتجاوز العقَد التي أسس عليها العقل الفرنسي علاقته مع الجزائر، خصوصاً بعد رفض الجزائر التراجع عن استحقاقات اقتصادية وثقافية، تعتبرها فرنسا مسائل مفصلية في تحديد مصير مصالحها ونفوذها في الجزائر.
اللافت أن السلطة الجزائرية تفترض أن تدبير الأزمة كان من جهاز الاستخبارات الفرنسية، وهذا يعني تحييداً سياسياً لماكرون من الأزمة، أو بمعنى آخر إبقاء مخرج ممكن للأزمة ومنفذ لتطويقها سياسياً. الحكم على ذلك يرتبط بموقف ماكرون نفسه، وهذا الذي سيحسم ما إذا كان الرئيس عبد المجيد تبون سيزور باريس أم لا في مايو/ أيار المقبل. لم تكتمل الصورة بعد، لكن الظاهر أن قضية بوراوي لم تكن سوى الجبن الذي يبحث عن الخبز فحسب.