أزمة جديدة بين روسيا ومولدوفا: موسكو تتجنب قطع العلاقات

20 اغسطس 2023
تقاربت ساندو مع الاتحاد الأوروبي (دانيال مهيالوسكو/فرانس برس)
+ الخط -

في مؤشر على عدم رغبة الكرملين في قطع العلاقات نهائياً مع مولدوفا على الرغم من البرود الواضح في العلاقات منذ انتخاب الرئيسة مايا ساندو المؤيدة للتوجّهات الأوروبية، وتصاعد التوتر بين البلدين منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، ومخاوف من أن تكون مولدوفا الهدف التالي للجيش الروسي، اكتفت وزارة الخارجية الروسية بحظر دخول عدد من المسؤولين المولدوفيين رداً على قرار كيشيناو تقليص البعثة الدبلوماسية الروسية في الشهر الماضي، ولم تذهب إلى خيار الردّ بالمثل على طرد 18 دبلوماسياً روسياً من كيشيناو و27 موظفاً فنياً من السفارة الروسية هناك.

وذكرت الخارجية الروسية في بيان، يوم الجمعة الماضي، أنها استدعت سفيرة مولدوفا لدى موسكو ليليان دارّيا، وسلمتها مذكرة احتجاج، وأخبرتها بقرار موسكو حظر دخول عدد من المسؤولين المولدوفيين في إطار الرد على "أفعال غير ودية تؤدي إلى مزيد من الدمار للعلاقات الروسية المولدوفية التي تعاني بالفعل من أزمة عميقة بسبب تصرفات الجانب المولدوفي".

قررت موسكو حظر دخول عدد من المسؤولين المولدوفيين في إطار "الرد على أفعال غير ودية"

ورغم صيغة البيان، فإن عدم لجوء موسكو إلى طرد عدد متكافئ من الدبلوماسيين المولدوفيين، أظهر أن موسكو لا تريد قطع العلاقات نهائياً بين البلدين، رغم وصولها إلى أدنى مستوى واقتصارها على مستوى تبادل رسائل الاحتجاج عبر سفارتي البلدين في موسكو وكيشيناو، في ظل عدم تبادل الزيارات بين المسؤولين. كما كانت مولدوفا قد قررت الانسحاب تدريجياً من جميع مشاريع التكامل الأوراسي التي تروّج لها موسكو، وكذلك المنظمات التابعة لرابطة الدول المستقلة التي تأسست بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، بهدف التكامل والمحافظة على علاقات اقتصادية وسياسية قوية بين البلدان التي خرجت من العباءة السوفييتية، باستثناء بلدان البلطيق. ومعلوم أن عدد الدبلوماسيين في سفارة مولدوفا في روسيا لا يتجاوز ستة.

وفي حين لم تكشف موسكو عن قائمة المشمولين بالحظر، نقل موقع "خدمة راديو سفابودا (الحرية)" في مولدوفا (وهو موقع مدعوم من حكومة الولايات المتحدة) عن مصادره أن القائمة تضمّنت 20 مسؤولاً، من ضمنهم رئيس نقابة الصحافة المستقلة بيوتر ماكوفي، ونائب قائد شرطة الحدود أوليغ بوكاتار، إضافة إلى 18 نائباً من حزب "العمل والتضامن" الحاكم ذي التوجهات الأوروبية.

ورداً على الخطوة الروسية، أبدى المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية والاندماج الأوروبي في مولدوفا إيغور زاخاروف أسفه للقرار الروسي، مشيراً إلى أنها "ليست أول مرة تلجأ فيها السلطات الروسية إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات". وشدد على أن بلاده "تعتزم التصدي للإجراءات التي تؤدي إلى زعزعة الاستقرار".

اتهامات بالتجسس والتأثير في الانتخابات

وبدأت الأزمة الأخيرة بين الجارتين السوفيتيين السابقتين في 26 يوليو/تموز الماضي، حين طلبت مولدوفا من روسيا خفض عدد الموظفين الذين يعملون في سفارتها في كيشيناو، وذلك بعد صدور تقرير استقصائي لموقع "إنسايدر" الاستقصائي يتهم موظفي السفارة الروسية بالتجسس على مولدوفا وممارسة أفراد المخابرات الروسية نشاطات للتأثير على نتائج الانتخابات في البلاد. حينها قال وزير خارجية مولدوفا نيكولاي بوبيسكو في اجتماع لمجلس الوزراء: "اليوم قررنا الحدّ من عدد الدبلوماسيين الروس المعتمدين في جمهورية مولدوفا".

وكشف المتحدث باسم وزارة الخارجية والاندماج في مولدوفا إيغور زاخاروف أن بلاده ستطرد 18 دبلوماسياً و27 موظفاً فنياً من السفارة الروسية في كيشيناو. وسيبقى 10 دبلوماسيين و15 موظفاً فنياً في البعثة الدبلوماسية الروسية.

وأوضحت الوزارة في بيان أنها اتخذت القرار بسبب مخالفة بعض الدبلوماسيين والموظفين الروس المعايير الدبلوماسية، ومواصلتهم العمل لزعزعة الاستقرار في مولدوفا. وأضافت: "لعدة عقود، كنا شهوداً وأهدافاً لأنواع عديدة من الأنشطة من جانب روسيا، بما في ذلك سياسة عدائية إلى حدّ ما، وسعي جزء كبير من السلك الدبلوماسي لدولة أخرى إلى زعزعة استقرار الوضع في بلدنا". وشددت الوزارة على أن "أي تجسس وتدخّل أجنبي في الشؤون الداخلية لمولدوفا أمر غير مقبول على الإطلاق، ويشكل تحدياً وتهديداً مباشراً لسيادة دولتنا وأمنها القومي".

وفي 31 يوليو الماضي، أعلنت دائرة المعلومات والأمن المولدوفية إنهاء الاتفاق مع هيئة الأمن الفيدرالية الروسية (إف إس بي)، كما باشرت إجراءات إنهاء الاتفاق مع الاستخبارات العسكرية الروسية. وأوضحت الدائرة في بيان أن الاتفاقيات لا تعمل منذ بدء "الغزو الروسي لأوكرانيا"، وأن الاتفاقيات لم تعد تتوافق مع المصالح الوطنية لمولدوفا وأمنها. وإضافة إلى تبادل المعلومات، تسمح الاتفاقيتان الموقعتان في 1994 لضباط الاستخبارات الروسية بالوجود في جمهورية "بريدنيستروفيه" الانفصالية عن مولدوفا.

وكان تقرير أعده موقع "إنسايدر" مع قناة "جورنال تي في" المولدوفية ذكر، في 24 يوليو الماضي، أنه جرى تركيب 28 هوائياً وطبق استقبال الأقمار الصناعية على سطح السفارة الروسية في كيشيناو، وأن موظفي الاستخبارات الروسية الذين يعملون في السفارة يصعدون إلى السطح، من أجل توجيه الهوائيات. وأشار التقرير إلى أنه سُجلت نشاطات متزايدة على سطح السفارة قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وكذلك أثناء قمة المجموعة السياسية الأوروبية، التي تضم دول الاتحاد الأوروبي إضافة إلى دول من خارجه، كبريطانيا وأذربيجان وكوسوفو وتركيا، والتي عقدت في 1 يونيو/حزيران الماضي في كيشيناو بحضور واسع للقادة الأوروبيين.

وحسب التحقيق الاستقصائي، تتيح هذه الهوائيات إنشاء اتصالات عبر الأقمار الصناعية أو خط إرسال بالموجات القصيرة أو تضخيم إشارة موجّهة للإنترنت اللاسلكي، وتحديد موقع السفن والطائرات والصواريخ الموجهة، وبالتالي الاستفادة منها في توجيه الصواريخ ضد أهداف أوكرانية، إضافة إلى اعتراض إشارات الاتصالات الهاتفية عبر الأقمار الاصطناعية. وهذا يسمح لموظفي المخابرات الروسية بالاستماع إلى المحادثات الهاتفية واعتراض المحادثات الخاصة للشرطة والأجهزة الأمنية في مولدوفا.

وذكر التقرير أن البيانات التي يجرى جمعها ترسل إلى موسكو على أقراص صلبة ومحركات أقراص محمولة من قبل زوجات موظفي السفارة نظراً لتمتعهن بالحصانة الدبلوماسية.

وعرض التقرير معلومات وأسماء دبلوماسيين روس وموظفين في السفارة. وزعم معدو التقرير أن الأشخاص المذكورين يتبعون أجهزة استخبارات روسية مختلفة، مثل الاستخبارات العسكرية، وهيئة الأمن الفيدرالي الفرع الخامس المعني بمراقبة دول الاتحاد السوفييتي السابق، والاستخبارات الخارجية. وعرض التقرير أسماء دبلوماسيين وموظفين قال إنهم كانوا يعملون حينها في السفارة الروسية في كيشيناو، رغم أنهم طُردوا في السنوات الماضية من ممثليات وسفارات روسيا من الولايات المتحدة وبلدان أوروبية بتهم التجسس.

تقارير دولية
التحديثات الحية

كرة الثلج تتدحرج

ومنذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في 1991، سعت مولدوفا إلى اختيار التوازن في علاقاتها بين روسيا والاتحاد الأوروبي. وتملك روسيا أدوات كبيرة للتأثير في السياسات الداخلية في مولدوفا، من أهمها دعم الانفصاليين في جمهورية "بريدنيستروفيه" (ترانسنستيريا)، التي يوجد فيها أكبر مخزن للأسلحة والعتاد القديمة بعد سحبها من دول الكتلة الشرقية، وترابط فيها وحدة روسية لحفظ السلام، وأخرى لحماية مخازن الأسلحة. كما تدعم موسكو جمهورية غاغوزيا ذات الحكم الذاتي في مولدوفا، ومعظم سكانها من ذوي الأصول التركية، ولكنهم يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية، ويتحدثون الروسية.

تملك روسيا أدوات كبيرة للتأثير في مولدوفا، من أهمها دعم الانفصاليين في جمهورية "بريدنيستروفيه

وإضافة إلى إمكانية تحريك النزعات الانفصالية، تدعم روسيا عدداً من الأحزاب المقربة منها. وفي السنوات الأخيرة، تبدل حلفاء الكرملين في مولدوفا من الحزب الشيوعي حتى عام 2010 إلى حزب الاشتراكيين في العشرية الثانية. وبعد خسارة الرئيس السابق إيغور دودون في الانتخابات الرئاسية أمام ساندو في 2020، توجّه مزيد من الدعم الروسي إلى حزب "شور" الذي أسسه الملياردير إيلان شور المتهم بقضايا فساد والذي هرب إلى إسرائيل، ولكنه استطاع تنظيم احتجاجات واسعة خريف العام الماضي وشتاء العام الحالي ضد تردي الأوضاع المعيشية، وارتفاع التضخم الذي وصل في العام الماضي إلى 30 في المائة نتيجة الحرب في أوكرانيا.

واستخدمت روسيا سلاح الغاز أكثر من مرة ضد مولدوفا، التي قررت منذ بداية العام التخلي نهائياً عن الغاز الروسي رغم الكلفة الاقتصادية المرتفعة. كما يعمل أكثر من 600 ألف عامل من مولدوفا في روسيا في مجال الزراعة والبناء.

في المقابل، وبعد صعود مايا ساندو إلى الحكم، سرّعت كيشيناو خطوات التقارب مع الاتحاد الأوروبي الذي يستقبل قرابة 900 ألف من العمال المهاجرين من مولدوفا، وبات سوقاً لأكثر من 58 في المائة من المنتجات الزراعية المولدوفية في 2022 حسب الاحصاءات الرسمية، مقابل 10.8 في المائة توجهت إلى روسيا. وأدت الحرب الروسية على أوكرانيا دوراً كبيراً في تغيير المزاج الشعبي، خصوصاً بعد تصريحات جنرال روسي كبير في إبريل/نيسان من العام الماضي أن "بريدنيستروفيه" ستكون هدفاً للجيش الروسي بعد السيطرة على مدينة أوديسا الأوكرانية.

وفي منتصف فبراير/شباط الماضي، اتهمت ساندو روسيا بالتخطيط لاستخدام "مخربين" أجانب لإطاحة حكومتها. وقالت حينها في مؤتمر صحافي إن مخطط "المؤامرة" كان يشمل تنظيم "احتجاجات من قبل ما يسمى بالمعارضة"، بهدف "قلب النظام الدستوري". وذكرت ساندو أن روسيا كانت تخطط لاستخدام "مخربين لهم خبرة عسكرية، متخفين بملابس مدنية، للقيام بأعمال عنف، وشنّ هجمات على مؤسسات الدولة وأخذ رهائن". وشددت على أن "محاولات الكرملين لنشر العنف في بلادنا ستفشل".

ورغم تبدل المزاج الشعبي في مولدوفا ضد روسيا بسبب الحرب على أوكرانيا، يبدو أن روسيا لا تفضّل القطيعة، وتعمل على استخدام كل وسائلها للتأثير، من التحريض على ساندو وتوجهاتها الغربية، والمبالغة في مخاوف دمج مولدوفا في رومانيا، إلى استخدام الأحزاب ووسائل الإعلام المدعومة من الكرملين في مولدوفا للتحريض ضد تردي الأوضاع المعيشية. كما تسعى موسكو للتأثير في نتائج الانتخابات المحلية خريف العام الحالي والرئاسية في العام المقبل، خصوصاً أن التحالف الحكومي الداعم للغرب يحظى بنحو 28 في المائة من النواب مقابل 25 في المائة لصالح الأحزاب المدعومة بشكل أو بآخر من روسيا.

المساهمون