في مشهد أصبح معتاداً على الساحة السياسية الإيطالية، حتى في ذروة الأزمة الاقتصادية والصحية التي يواجهها هذا البلد، سقطت أمس الثلاثاء، كل المحاولات في روما، لإنعاش حكومة جوزيبي كونتي الائتلافية، بعد انفراط عقدها. واختار الرئيس سيرجيو ماتاريلا، الذي يملك صلاحيات واسعة خلال الأزمات، أن يبعد شبح الانتخابات المبكرة عن الإيطالييين وسط أزمة كورونا، وربما أيضاً خطر اليمين المتطرف، المتحفز للعودة بقوة والاستحواذ على حصّة وافرة في البرلمان. وأخرج ماتاريلا اسم رئيس المصرف المركزي الأوروبي السابق، الاقتصادي الإيطالي ماريو دراغي، من العلبة، مكلفاً إياه بتشكيل حكومة جديدة تقع على عاتقها مهمة إدارة مرحلة كورونا والتعافي من الانكماش الاقتصادي الذي خلّفته، وعملية ضخّ 222,9 مليار يورو من صندوق تمويل أوروبي، لدعم الاقتصاد الإيطالي المترنح.
ويمثّل تكليف دراغي بتشكيل الكابينة الوزارية الجديدة، سواء اتخذت هيئة حكومة وحدة وطنية أو تكنوقراط بدعم سياسي، خبراً مفرحاً، للأوروبيين، فيما ليس واضحاً بعد ما إذا كان سيتمكن من الحصول على الدعم السياسي والبرلماني الكافي.
تضاربت الأنباء حول الاتجاه الذي سيأخذه حزب "خمس نجوم" في البرلمان لدعم دراغي
وفي هذا الإطار، تضاربت الأنباء اليوم الأربعاء، حول الاتجاه الذي قد يأخذه حزب "خمس نجوم" في البرلمان (أكبر حزب بمفرده ممثل في البرلمان) لجهة موافقته على دعم حكومة بقيادة دراغي، من عدمه، وكذلك حزب "الرابطة" اليميني بقيادة ماتيو سالفيني، فيما من المتوقع أن يفرض زعيم الحزب الصغير "إيطاليا فيفا" (تحيا إيطاليا)، رئيس الحكومة السابق، ماتيو رينزي، شروطه على عملية التكليف.
وفشلت أمس المساعي السياسية في روما، لإعادة إنعاش حكومة كونتي، الذي قدّم في 26 يناير/ كانون الثاني الماضي استقالته إلى ماتاريلا، بعد فقدانه الأغلبية في مجلس الشيوخ، إثر انسحاب حزب "إيطاليا فيفا" من الائتلاف الحكومي، الذي يضم أيضاً تيار الوسط (الحزب الديمقراطي) وحزب "خمس نجوم". وكان كونتي يأمل جذب أحزاب صغيرة أخرى، لسدّ ثغرة مغادرة رينزي، كما جرى التفاوض مع الأخير خلال الأيام الماضية، مع وعود من "خمس نجوم" لتعزيز حصته في الحكومة المقبلة. لكن هذه المحاولات، التي قادها رئيس مجلس النواب روبرتو فيكو، باءت بالفشل. وبدأ اسم دراغي يتردد منذ يوم الأحد، كبديل محتمل لكونتي تحديداً لدى ماتاريلا، رغم الأجواء الإيجابية التي قدمها فيكو بداية حول المشاورات، قبل أن ينعاها الثلاثاء. وكان رينزي، الذي بات يلقب بـ"المُدمر"، رغم حصتّه الصغيرة في البرلمان، قد ألقى باللوم على كونتي لانهيار الحكومة، منتقداً سياسة الأخير الاقتصادية. في المقابل، اتهم رينزي (رئيس الوزراء من 2014 إلى 2016) نواب كونتي بالمسؤولية عن فشل المفاوضات، مشيراً إلى أنه سعيد بالنتيجة، ومشيداً بقرار ماتاريلا "الحكيم". وأكدت مصادر في "إيطاليا فيفا" للإعلام المحلي، أنها ستدعم في البرلمان تولي دراغي رئاسة الحكومة، وقال بعضها إن الحزب هو من سوّق اسم الأخير لدى ماتاريلا. لكن مصادر في "خمس نجوم"، قالت لـ"رويترز" إن الحركة لن تدعم حكومة جديدة برئاسة دراغي. إلا أن أي انتخابات مبكرة، لن تصب في مصلحة أحزاب الوسط واليسار، إذ تظهر أنها قد تسمح لليمين بزعامة سيلفيو برلوسكوني (فورتسا إيطاليا) المتحالف مع اليمين المتطرف ("الرابطة" و"إخوة إيطاليا") بالفوز.
ماتاريلا: الانتخابات المبكرة ليست بالقرار الصائب في هذا الوقت الحاسم من تاريخ إيطاليا
والتقى ماتاريلا اليوم الأربعاء بدراغي، لتكليفه بتشكيل الحكومة. وكان ماتاريلا قد أعرب، مساء أمس، عن رغبته في أن تقود البلاد حكومة "رفيعة المستوى" قادرة "على مواجهة الأزمات الخطيرة الحالية، الصحية والاجتماعية والاقتصادية"، وهو تعريف يتوافق تماماً مع مؤهلات دراغي، الذي يُعزى إليه الفضل في إنقاذ منطقة اليورو من أزمة الديون في 2012. وناشد الرئيس الإيطالي جميع الأحزاب السياسية دعم الحكومة المرتقبة، مستبعداً إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في خضم الجائحة. وقال في هذا الإطار إنه على الرغم من أن الانتخابات المبكرة كانت نتيجة محتملة و"ممارسة ديمقراطية" ضرورية، إلا أنها ليست بالقرار الصائب في هذا الوقت الحاسم من تاريخ إيطاليا، مع وفاة أكثر من 89 ألف شخص بالفيروس. وأضاف أنه لذلك، فإن "من واجبي توجيه نداء إلى جميع القوى في البرلمان حتى يمنحوا الثقة لحكومة رفيعة المستوى لا علاقة لها بأي قوة سياسية". وفي ظلّ نظام انتخابي نسبي، لطالما دفع في إيطاليا إلى تكوين ائتلافات حكومية، وجعل الأحزاب الصغيرة تملك كلمة وازنة في تشكيل الحكومات الإيطالية، لمّح ماتاريلا أيضاً في كلمته إلى أن الانتخابات المبكرة لن تؤدي بالضرورة إلى توكيل واضح لأحد الأسماء السياسية لتشكيل الحكومة. وكان الأمر قد تطلّب أشهراً طويلاً بعد انتخابات في عام 2018، لتشكيل حكومة قادرة على العمل. ورأى ماتاريلا أن كل ذلك قد يشكل مصدر قلق للمواطنين، الذين يريدون حلولاً سريعة لمشاكلهم اليومية.
ويعرف عن دراغي (73 عاماً) دوره الحاسم في إنقاذ منطقة اليورو من أزمة الديون عام 2012، وإنقاذ العملة الموحدة الأوروبية، حين قال عبارته الشهيرة "سأفعل كل ما يلزم" لذلك، ما أكسبه لقب "سوبر ماريو". وغاب دراغي عن الحياة العامة منذ مغادرته منصب رئيس المصرف المركزي الأوروبي عام 2019، لكنه ظلّ يعد بمثابة "ذخيرة" مهمة للحياة السياسية والاقتصادية في روما. ويعرف الرجل أيضاً بتكتّمه وجديّته وتصميمه. ودراغي مجاز في الاقتصاد وحائز على درجة دكتوراه في الاختصاص نفسه من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (إم آي تي)، الجامعة الأميركية المرموقة. ووصل دراغي إلى المصرف المركزي الأوروبي عام 2011، خلفاً للفرنسي جان كلود تريشيه. ومع إمكانية قيادته الحكومة، تعود إيطاليا مجدداً لخيار النموذج التكنوقراطي الحكومي، الذي يملك سمعة إنقاذها في وقت الأزمات، في استعادة لتجربة ماريو مونتي في 2011.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)