أرض بلا شعب لشعب بلا أرض

28 مايو 2023
أثناء سفر هرتزل إلى فلسطين بحراً عام 1898 (Getty)
+ الخط -

اتّكأ خطاب الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ في فلسطين على سرديّة الاستشراق الأوروبيّ الكلاسيكيّ، وذلك من خلال تعمية التاريخ الفلسطينيّ، واختطافه، ومحاولة تطهيره ثقافيّاً وتاريخيّاً وسياسيّاً، بل إنكاره أيضًا، باعتبار فلسطين "أرضاً بلا شعب لشعبٍ بلا أرض". إن ما تصوره الدّراسات التوراتيّة، منذ بدايتها حتى اليوم، هو تصوير "فلسطين" من دون سكان، أو على أكثر تقدير كسكان مؤقتين، سريعيّ الزوال، ينتظرون قدوم ذلك الشعب، الذي لا يملك الأرض، ونتيجة ذلك كان إنكار أية استمراريّة، أو شرعية للتاريخ الفلسطينيّ، فإذا لم يكن هناك فلسطينيّون في العصور القديمة، فلا يمكن أن يكون هناك تاريخ فلسطينيّ.

يصـف يوهانان أهارونى، العصر البرونزيّ المتوسط والمتأخر، والفترة الكنعانيّة المتوسطة الثانية والمتأخرة (2000 ق.م ــ 1200 ق.م)، على أنها أوّل فترة تاريخيّة توجد عنها وثائق محفوظة، ولكنه يضيف: (إن تلك هي أيضاً الفترة التي تغلغلت فيها القبائل العبرية في المناطق المختلفة من البلاد، حتى تبلور شعب إسرائيل، الشعب الأوّل والوحيد الذي جعل من هذه الأرض وطنًا له). على الرغم من أنّ الحقيقة المعروفة، وهي أنّه بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري؛ الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبه، لم يعثر على أثر واحد يربط "العهد القديم" بها، وأيّ ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق، وتزوير للحقائق. [يمكن مراجعة أعمال كل من: تومس طمسن (Thomas L. Thompson)، وفيليب ديفيز (Philip R. Davies)، وكيث وايتلام (Keith W. Whitelam)، ونيلز بيتر لمكه (Neils Peter Lemche)، وجيوفاني غاربيني (Giovanni Garbini)، زئيف هرتسوغ (Ze'ev Herzog)، إسرائيل فنكلشتاين (Israel Finkelstien)، شلومو ساند (Shlomo Sand)] ما يثير الانتباه، أنّه لا يقدم أيّ تفسير لنظرياته القائلة إنّ "شعب إسرائيل" هـو (الشعب الأوّل والوحيد الذي اتخذ من هذه الأرض وطناً له). ولا يقدم للقارئ أيضاً أيّ تفسير للسؤال: لماذا تكون إسرائيل وحدها هي التي بإمكانها أنّ تزعـم أنّ هذه الأرض هي وطنها "الطبيعي".

عن هذه البرقية قال المؤرخ الإسرائيليّ آفي شلايم، في كتابه "الجدار الحديديّ- إسرائيل والعالم العربيّ"، إنها تضمنت "المشكلة" التي ستتعارك معها الحركة الصهيونيّة منذ البدء (وحتى إشعار آخر)

لقد هيمنت تلك الحقيقة المزعومة على خطاب الدّراسات التوراتيّة، خلال معظم القرن الحالي، وأتاحت مجالاً لتطوير كثير من فرضيات التراث التوراتيّ، وهذه الحقيقة المزعومة أسهمت، أكثر من أيّ شيء آخر، في إهمال وتحقير الشعب الفلسطينيّ، وثقافته، مع إغفال التاريخ، الذي بقي آلافاً من السنين لفلسطين، ذلك التاريخ الذي تعامى عنه علماء الآثار، بالمعنى الحرفي لكلمة التعامي.

بذلك جرَّدت الدّراسات التوراتيّة لفظ "فلسطين" من أي معنى كامن فيه، ولم يعد من الممكن فهمه، إلا إذا أعيد تعريفه، من خلال لفظ دينيّ، أو لاهوتيّ آخر، كاللفظ المستعمل للدلالة على "الأرض المقدسة"، أو "أرض إسرائيل"؛ ولكن ما يلفت النظر أكثر من ذلك، أنّه في حين أنّ لفظ "فلسطين" قد يكون مستعملاً كثيراً، على الرغم من تجريده من أي معنى لذاته، فإن لفظ "فلسطينيّين" باعتبارهم سكان هذه الأرض، هو استعمال نادر للغاية في الدّراسات التوراتيّة، فإن كانت هناك أرض تدعى فلسطين، فلماذا لا يمكن تسمية مواطنيها بالفلسطينيّين؟

بهذا، فإنّ فلسطين ليس لها معنى حقيقي خاص بها، أو أيّة قيمة فعلية خاصة بها، بل تتحول إلى حلبة لـ "التاريخ الحقيقيّ، والموثَّق لإسرائيل". وهذا جوهر الادعاء بملكية الأرض. وبذلك بدأ الصراع على محو الرواية التّاريخيّة، وإعادة تعريفها بمنظور توراتيّ، وبدأ تهجير الوطن من الذاكرة.

هذا ما حدا باللورد أنطوني اشلي كوبر (Anthony Ashley Cooper) [شافتسبري Shaftesbury]، إلى وصف فلسطين في مقال منشور له بعنوان "الدولة وآفاق المستقبل أمام اليهود"، عام 1839: بأنها (بلاد بدون أمة، لأمة بدون بلاد).

وكتب الرحّالة اللورد ليندسي (Lord Lindsay)، في كتابه المنشور بعنوان "رسائل عن مصر وإيدوم والأرض المقدسة" (Letters on Egypt, Edom and the Holy Land)، وصدر عام 1838؛ "إنّ عقم واضمحلال أرض فلسطين لم يكن بسبب لعنة أصابت الأرض، ولكن ببساطة بسبب (عدم وجود سكانها القدامى)". وكان يؤمن بأن إرادة الله هي التي شاءت "ألّا يكون السّكان الحاليّون كثيري العدد على الإطلاق" حتى لا يعوقوا عودة "الورثة الشّرعيّين"، وكان يؤمن أن الأرض التي كانت خصبة من قبل "تنتظر عودة أولادها المنفيّين فقط، وتطبيق الصناعة التي تناسب قدراتها الزراعية حتى تنطلق مرة أخرى لتكون في حالة رخاء وترف تام، وتعود كما كانت أيام النبي سليمان".

كما أطلق القس الأميركيّ وليام بلاكستون، عام 1888؛ الشعار نفسه المتمثل في أن (فلسطين هذه تركت هكذا أرضاً بغير شعب، بدلاً من أن تعطى لشعب بغير أرض). ذلك الشعار الذي حولته الصهيونيّة اليهوديّة فيما بعد إلى "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهو شعار عمّمه شعبيّاً إسرائيل زانغويل (Israel Zangwill)، وهو كاتب بارز يهوديّ إنكليزيّ، كثيراً ما أشارت إليه الصحافة البريطانيّة على أنه المتحدث بلسان الصهيونيّة، وأحد أوائل منظّمي الحركة الصهيونيّة في بريطانيا. وحتى عام 1914، قال حاييم وايزمان، الذي أصبح أوّل رئيس لـ (إسرائيل)، والذي كان مع تيودور هرتزل ودايفيد بن غوريون، واحداً من أكثر ثلاثة رجال مسؤولين عن تحويل الحلم الصهيونيّ إلى حقيقة، قال: "كانت الصهيونيّة في مراحلها الأولى مصمَّمة على أيدي روّادها، بأنها حركة تعتمد كلّيًّا على عوامل ميكانيكيّة: هناك بلد يصادف أن ليس فيه شعب، ومن جهة أخرى، هناك الشعب اليهوديّ، وهو ليست له بلاد. فماذا يلزم بعد، لتثبيت الجوهرة في الخاتم، بجمع هذا الشعب مع هذه البلاد؟ على مالكيّ البلاد؛ الأتراك، إذاً أنّ يقتنعوا بأنّ هذا الزواج ملائم، لا للشعب؛ اليهوديّ، وللبلاد فقط، بل أيضاً لهم".

لكن عندما قرر حاخام العاصمة النمساويّة فيينا أن يستقصي أفكار هرتزل المبثوثة في كتابه "دولة اليهود"، أرسل مندوبين عنه إلى فلسطين في مهمة وصفت بأنها لـ "تقصّي الحقائق". وقد وجّه هذان المندوبان برقيّة من فلسطين يقولان فيها: (العروس؛ أي فلسطين، جميلة، لكنّها متزوّجة من رجل آخر). وعن هذه البرقية قال المؤرخ الإسرائيليّ آفي شلايم، في كتابه "الجدار الحديديّ- إسرائيل والعالم العربيّ"، إنها تضمنت "المشكلة" التي ستتعارك معها الحركة الصهيونيّة منذ البدء (وحتى إشعار آخر). هذه المشكلة هي، بطبيعة الحال "السّكّان العرب الذين يعيشون على الأرض التي أرادها اليهود" لإنشاء دولتهم، والتي اصطلح على تسميتها "المشكلة العربيّة".

بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري؛ الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبه، لم يعثر على أثر واحد يربط "العهد القديم" بها

فلما سأل رئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهوديّة، آرثر روبين، وايزمن عما لديه من أفكار بالنسبة إلى العرب الفلسطينيّين، أجابه هذا الأخير: "أخبرنا البريطانيّون أن ثمة بضع مئات الألوف من الزنوج" كوشيم" وليس لهؤلاء أيّة قيمة".

تنبه البروفيسور نور مصالحة، في كتابه "فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ"، إلى أن كلمة زنجيّ (Nigger) في اللغة الإنكليزيّة، هي "شتيمة عنصريّة بيضاء موجّهة مباشرة إلى السود والأفارقة. وتُردّد مضامينُها التّحقيريّة صدى كلمة ازدراء إنكليزيّة أخرى، هي فِلِستين، التي استعارها البيض البريطانيّون من المزاعم التوراتيّة، وعمّموها في الأحاديث اليوميّة".

وأخيراً، ترتب على تنفيذ مشروع إنشاء "دولة إسرائيل" من جرائم مريعة بحقّ هؤلاء السّكّان، لعلّ أشدّها وأدهاها جريمة التطهير العرقيّ، التي أكدها التوثيق المحفوظ في الأرشيفات الإسرائيليّة، فالمؤرخ الإسرائيليّ إيلان بابيه، في كتابه "التطهير العرقي"، يؤكد أن ما تم في فلسطين، هو، (تصفية إثنية مخططة وممنهجة)، و(كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيديولوجية الصهيونيّة، التي تطلعت إلى أن تكون فلسطين لليهود حصراً). أو كما يقول المفكر الفرنسيّ، إنزو ترافيرسو، ذو الأصل الإيطالي، في كتابه "نهاية الحداثة اليهوديّة: تاريخ انعطاف محافظ": (ثمة أمر مؤكد: إن سلوك الجيش الإسرائيليّ خلال الصراع كان يندرج في إطار المشروع الصهيونيّ لإنشاء دولة يهوديّة من دون عرب). وبذلك ظهرت إسرائيل على حد تعبير أندرسون، كـ "جمهورية من الدم والعقيدة"، أي ديمقراطية محددة على أسس طائفية وعرقية، مفتوحة أمام كل أنصار الشريعة الموسويّة.

المساهمون