لم تكن المقاطعات القبلية الباكستانية السبع، وهي خيبر، ووزيرستان الشمالية، ووزيرستان الجنوبية، وباجور، وكرم، ومهمند، وأوركزاي، بمنأى عما جرى في أفغانستان، خلال العقود الأربعة الماضية، بحكم أنها كانت مرتعاً للحركات الجهادية خلال تلك الحقبة.
وكانت هذه المقاطعات السند الأساسي للمجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفييتي (1979-1989)، قبل انتقال مراكز تنظيم "القاعدة" إليها، وتصبح محطة التجنيد الرئيسية لحركة "طالبان أفغانستان" بعد الغزو الأميركي للبلاد في العام 2001.
وأدت سيطرة "طالبان" على أفغانستان في أغسطس/آب الماضي، إلى تمدد تأثير الحركة إلى المنطقة القبلية الباكستانية، ما زاد من قلق السلطات في إسلام أباد، التي تحاول مواجهة تمدد فكر "طالبان أفغانستان" إلى المناطق التي تقطنها القبائل البشتونية (نفس قبائل "طالبان")، خصوصاً أن تلك المناطق مهيأة جداً للتأثر بأفغانستان من النواحي الفكرية والعرقية والاجتماعية والجغرافية.
منع النساء من الدخول للمناطق الترفيهية
ومن بوادر هذا التأثر، إصدار قادة القبائل ورجال الدين، في 17 الشهر الحالي، خلال اجتماع في مقاطعة باجور القبلية في شمال غربي باكستان، قراراً بمنع النساء من الدخول إلى المناطق الترفيهية والحدائق، إذ إن هذا الأمر "يؤدي إلى مساوئ خلقية".
قرر قادة القبائل ورجال الدين في المناطق القبلية الباكستانية منع النساء من الدخول إلى المناطق الترفيهية والحدائق
وقد أثار هذا القرار امتعاض الكثيرين، بينهم مسؤولون في الحكومة والجيل القبلي المثقف المتطلع إلى تغيير الحالة الاجتماعية في المنطقة القبلية. وأمهل الاجتماع الحكومة مدة أسبوع لتطبيق القرار، ومنع النساء اللواتي يأتين من كل ربوع باكستان إلى مصيف باجور (سواء كن برفقة رجال أم لا) من الدخول إلى المناطق السياحية. كما طلب المجتمعون من القبائل منع نسائها من الخروج إلى المناطق السياحية، بحكم أن الاجتماع القبلي حظر ذلك.
ومع أن القرار يضر بمعيشة سكان مقاطعة باجور، والتي كان السياح يتوجهون إليها بكثافة، فإن المجتمعين أكدوا أن القبائل تتحمل كل الأعباء الاقتصادية مقابل القضاء على ما وصفوه بـ"الفساد الأخلاقي".
وقال عالم الدين والزعيم القبلي المولوي عبد الرشيد، الذي ترأس الاجتماع، إن المناطق القبلية لن تقبل المساومة على عاداتها وأعرافها، وإن دخول النساء إلى المناطق السياحية تلاعب بقيمنا.
وأضاف: "نحن القبائل منذ القدم نضحي بكل غالٍ وثمين من أجل الحفاظ على قيمنا وأخلاقنا، من هنا نمنع النساء القادمات من مناطق باكستان من الدخول إلى مقاطعة باجور القبلية. كما نتعهد نحن القبائل ألا نسمح لنسائنا أيضاً بالدخول إلى المناطق السياحية، وهو أمر محتم لا مناص منه".
مطلب لكل القبائل؟
وقال محمد هارون خان، وهو زعيم إحدى القبائل في منطقة دير المجاورة لباجور، لـ"العربي الجديد"، إن "ما قرره الاجتماع القبلي في باجور هو مطلب كل القبائل". وأضاف: "لدينا قيم مشتركة منذ القدم، وكل ما واجهته المناطق القبلية من مآسٍ سببه الخضوع للمطالب الخارجة عن نطاق القبائل. وبالتالي، فإن ما قرره اجتماع باجور أمر له جذور في تاريخ القبائل، ومرحب به، ونأمل تمدده إلى كامل التراب القبلي".
واعتبر خان أن "إحياء تراث عقد الاجتماعات القبلية الذي دُمر بعدما دخلت قوات الجيش الباكستاني إليها (مناطق القبائل)، وبعد الغزو الأميركي لأفغانستان، بمثابة إحياء للمناطق القبلية".
وفي موازاة هذا، بدأت الأصوات تعلو في منطقة القبائل بمنع النساء من الخروج من المنازل من دون الرجال، والفصل بين البنين والبنات في المدارس. وقال الناشط الباكستاني عبد الفتاح يوسفزاي، لـ"العربي الجديد" إنه "كان من المتوقع مع وصول طالبان، التي معظم عناصرها من البشتون، إلى سدة الحكم (في أفغانستان)، أن تتأثر المناطق القبلية الباكستانية".
وأضاف: "لا شك أن التغيرات الإيجابية قادمة، لأننا أبناء قبائل واحدة، ودوماً، وعلى مرّ التاريخ، تتأثر المناطق القبلية ببعضها البعض. إن السياج الموجود على الحدود بين الدولتين لن يكون حائلاً بين أبناء الأعمام والقبائل، لكن بشرط تواصل الاستقرار في أفغانستان".
تصفية ممنهجة للموالين للحكومة المركزية
يحدث كل ذلك في وقت تشهد المناطق القبلية عمليات تصفية ممنهجة للنشطاء السياسيين، خصوصاً النشطاء في الأحزاب السياسية الدينية، وهم من البشتون وعلماء الدين، ويعدون من أبرز المدافعين عن نفوذ باكستان في المناطق القبلية.
وقتل خلال عشرة أيام (من 11 إلى 21 يوليو/تموز الحالي) 10 قياديين في "جمعية علماء الإسلام"، أكبر الأحزاب الدينية في باكستان، بينهم قاري سميع الدين وقاري محمد نعمان، كانوا شاركوا في الانتخابات العامة والبلدية، وهم من المدافعين بقوة عن قضية انضمام المناطق القبلية إلى إقليم خيبربختونخوا شمال غربي البلاد. كما أن هناك عملية تصفية ممنهجة لكل الرموز القبلية، التي تدافع عن سياسات الحكومة الباكستانية المركزية، من قبل جهات غير معلومة.
ودعا زعيم "جمعية علماء الإسلام" المولوي فضل الرحمن، في خطاب أمام اجتماع قبلي في مدينة بنو المحاذية لمقاطعة شمال وزيرستان القبلية في 22 يوليو الحالي، "المؤسسة العسكرية للقضاء على ظاهرة التصفية الممنهجة لقياداتنا، والقبائل والعرقية البشتونية بشكل عام، إلى الاحتجاج المتواصل، من أجل رفع الصوت ضد هذه الظاهرة الخطيرة للغاية". ومنذ ذلك الحين، تشهد مناطق الشمال الغربي من البلاد تظاهرات كل يوم جمعة للتنديد بعمليات اغتيال القيادات السياسية والرموز القبلية.
تشهد المناطق القبلية الباكستانية عمليات تصفية ممنهجة للنشطاء المدافعين عن نفوذ باكستان في المناطق القبلية
كما يتواصل الاعتصام المفتوح لقبائل البشتون في منطقة مير علي، والذي كان بدأ في 17 الشهر الحالي. وقال زعيم "حركة الحماية عن البشتون" منظور أحمد بشتين، أمام المعتصمين في 19 يوليو، إن "من عادات القبائل البشتونية أنها لا تقتل في الخفاء، إذ إن العداء والغدر من وراء الكواليس ليسا من ديدنها. من هنا، فإن ما يحدث من القتل الممنهج ليس من عمل البشتون"، داعياً الحكومة الباكستانية إلى التحرك لاحتواء القضية قبل فوات الأوان.
وزاد من التوتر في المنطقة، وقوع صراع بين البشتون وبين عرقية السندية في مدينة كراتشي منتصف الشهر الحالي، ما أدى إلى مقتل شخصين وإصابة آخرين، وذلك في أعقاب مقتل ناشط سندي بيد عناصر من البشتون في مدينة حيدر أباد.
وفي حين بدأت القبائل السندية العمل لإخراج البشتون من مناطقها، ردّ البشتون بإخراج أبناء العرقية السندية من المناطق البشتونية، خاصة في إقليم بلوشستان، قبل أن يتم احتواء الأزمة، من قبل الأحزاب القومية في الطرفين والحكومة.
جهود حكومية غير مجدية
في المقابل، تواصل الحكومة الباكستانية محاولاتها لإقناع "طالبان باكستان" بالتنازل عن بعض مطالبها، من أبرزها استقلال المناطق القبلية وإنهاء انضمامها إلى إقليم خيبربختونخوا شمال غربي باكستان، وخروج قوات الجيش الباكستاني من المناطق القبلية، إذ إن الموافقة على هذه المطالب ستدمر كل جهود المؤسسة العسكرية الباكستانية الرامية إلى إخضاع المناطق القبلية لسيطرة الحكومة المركزية.
وكانت زيارة وفد قبلي، مكون من 57 شخصاً، إلى كابول في 2 يونيو/حزيران الماضي، فشلت في جعل "طالبان باكستان" تتراجع عن شروطها. وأرسلت الحكومة الباكستانية، في الـ19 من الشهر الحالي، مسؤولين من الاستخبارات ضمن وفد اقتصادي للتفاوض مع ممثلي "طالبان باكستان" لإقناعهم بالتنازل عن بعض شروطهم، لكنه فشل أيضاً.
فشلت السلطات الباكستانية في الحصول على تنازل من "طالبان باكستان"
وتوجه إلى كابول، الثلاثاء الماضي، وفد جديد يضم علماء دين، بزعامة الشيخ محمد تقي عثماني، لأجل التفاوض مع ممثلي "طالبان باكستان" ومسؤولين في كابول لإقناع الحركة بالتنازل عن شروطها. ولكن يبدو أن "طالبان باكستان" مصرة على موقفها، خاصة في ما يتعلق باستقلال المناطق القبلية، وذلك بهدف الحصول على تأييد القبائل فيها.
كما أن "طالبان أفغانستان" تفضل بقاء المناطق القبلية مستقلة، خصوصاً أن معظم عناصر وقيادات الحركة يعارضون السياج الموجود بين الدولتين الذي يقطع أواصر قبائل البشتون.