يكشف السجال الأوروبي حول السائحين الروس المستوى المتسارع لانهيار علاقة موسكو بالقارة، فلم يعد فقط الاستهداف يطاول الطبقة الروسية الأكثر ثراء، التي يطلق عليها "الأوليغارشية" في الغرب، بل يدفع بعضهم نحو فرض قرار أوروبي جماعي يحظر دخول الروس العاديين إلى الاتحاد الأوروبي.
فخلال الأسابيع الأخيرة، شكل النقاش العام في دول الجوار الروسي، في دول البلطيق، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وفنلندا، ضغطا على السياسيين لاتخاذ مواقف حازمة حيال تدفق الروس العاديين نحو دولهم، كممر نحو وجهات أخرى بعد القرار الأوروبي بحظر الطيران المباشر من وإلى روسيا.
سلطات إستونيا تبنت أخيرا رفض دخول الروس، واعتبرت رئيسة الحكومة المتشددة في مواقفها مع الكرملين، كاجا كالاس، أن التأشيرة امتياز وليست حقا من حقوق الإنسان، انضمت دول البلطيق الأخرى إليها، بينما تعالت مطالب فنلندا إلى قرار أوروبي جماعي، وربما بالاشتراك مع أميركا وكندا. ويأمل مؤيدو حظر الدخول أن يؤثر قرارهم في مواقف الشارع الروسي من غزو الكرملين لأوكرانيا.
فحتى بعد ضم الكرملين في عام 2014 لشبه جزيرة القرم، ودعم متمردي شرق أوكرانيا، واصلت أوروبا سياسة الأبواب المفتوحة مع روسيا، بمواصلة منح تأشيرات شينغن، مثلما أبقت على قنوات الاتصال والعلاقة السياسية بالكرملين، تغير ذلك مع بداية غزو أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، بل وارتفعت في البداية أصوات غربية داعية حتى إلى مقاطعة ثقافية وفنية وأدبية للروس.
ومع رفع موسكو الشهر الفائت قيود جائحة كورونا عن سفر مواطنيها إلى الخارج، تدفق الآلاف عبر الحدود البرية، ما تسبب بضغط الرأي العام في إستونيا وفنلندا بداية، وتوسعه أوروبيا للمطالبة بمواقف متشددة حيال الحدود المفتوحة، ووقف منح تأشيرات على مستوى شينغن.
وخلال الأسابيع الأخيرة، لم يجعل بعض السائحين الروس مهمة الأصوات المتعقلة في أوروبا أسهل، فقد واصل بعضهم نشر صور ولقطات الاستمتاع بالإجازة، بينما يخوض بلدهم حربا وقصفا في مدن أوكرانيا. ولتلك التصرفات، اعتبرها بعض الأوروبيين "استفزازات" بحق الأوكرانيين اللاجئين والأوروبيين عموما، وخصوصا تلك التي أظهرت تحديا ودعما لرئيس روسيا فلاديمير بوتين، كما شهدت ألمانيا قبل فترة.
المراهنة الأوروبية في بداية الغزو على حدوث تغيير في الرأي العام الروسي، بالاحتجاج على الحرب، يبدو أنها استبدلت، بعد تشدد سلطات موسكو في وجه المحتجين في المدن الكبيرة، بمراهنة أخرى على حظر دخول الروس العاديين إلى أوروبا، معتقدين أن ذلك ربما يساهم في ضغوط داخلية على سياسات الكرملين لوقف الحرب. ويثير ذلك أيضا توجس بعض الأوروبيين والروس، باعتباره محاولة "إجبار" الطبقة الوسطى الروسية على اتخاذ موقف مناهض لبوتين، بل واعتباره "عقوبة جماعية".
ومن الواضح أن حظر سفر الروس يثير خلافات بين الأوروبيين، فبينما يبدي ساسة فنلندا والسويد والدنمارك، ودول البلطيق، وغيرها من دول الجوار، حماسة للحظر الجماعي، فإن الموقف الألماني يعود ليسجل جدلا آخر، بعد سجال التردد بتسليح أوكرانيا قبل أشهر.
وأبدى المستشار أولاف شولتز معارضته لموقف إستونيا حظر دخول الروس (باستثناء وجود حالات دفن أقارب). وترى برلين أن الحرب في أوكرانيا هي "حرب بوتين" وليست حرب كل الروس، وذلك يعتبر عقبة لطموحات الداعين لموقف مشترك في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في جمهورية التشيك، أواخر الشهر الحالي.
وفي كل الأحوال، أمام أوروبا عمل معقد لتذليل العقبات حتى آخر الشهر الحالي لتبني سياسة مشتركة، فالحظر يبقى بلا جدوى إذا استمرت بعض الدول بمنح تأشيرة شينغن، كما تفعل ألمانيا وغيرها، ما يضع كل نظام التأشيرات هذا على المحك إذا ما قررت دول البلطيق وبولندا وإسكندنافيا تجميد العمل فيه مع القادمين من سان بطرسبرغ الروسية.
ويبدي بعض الروس المعارضين لبوتين مخاوفهم من أن الحظر يصب في مصلحة سردية الكرملين عن كراهية الغرب لكل ما هو روسي. وأوضحت الصحافية الروسية، ومراسلة تلغراف البريطانية، ناتاليا فاسيليفا، على تويتر بأنه "في الوقت الحالي يبدو أن الشيء المتوقع من الروس هو إما قتل أنفسهم أو إرسالهم إلى السجن بعد محاولتهم تسلق جدران الكرملين".
رسميا، ذهب المتحدث باسم الكرملين، دمتري بيسكوف، إلى اعتبار تلك السياسة "غير عقلانية، وتتجاوز كل الحدود، وتثير فقط ردة فعل سلبية"، وشدد على أن "أي محاولة لعزل الروس أو روسيا ليس لها فرصة للنجاح".
صحيفة كومسومولسكايا برافدا سألت قبل أيام:" أوروبا، هل فقدت عقلك؟"، معتبرة أن الحظر لن يفيد إلا الكرملين، مذكرة بأن "الدعاية التي تدعي أن كل صراع مع الغرب مرده إلى رهاب الغرب من روسيا، ستصبح فجأة حقيقة واقعة، وذلك سيحطم صورة أوروبا الليبرالية، الملتزمة بالقانون والتسامح".