شرعت "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، التي تعتبر سلطة الأمر الواقع في الشمال الغربي من سورية، في إصدار بطاقات شخصية لسكان المناطق الخاضعين لها، مستغلة حاجة آلاف السوريين لأوراق ثبوتية، وسط خشية من أن تكرّس الخطوة الانقسام الجغرافي والمجتمعي في البلاد.
وقالت "وزارة الداخلية" لدى "حكومة الإنقاذ"، الذراع المدنية لـ"هيئة تحرير الشام"، منذ أيام، إنها بدأت باستقبال طلبات الأهالي للحصول على البطاقة الشخصية، ضمن 10 مراكز في كل من مدينة إدلب، وبلدة سرمدا، ومدينة حارم، ومدينة كفر تخاريم، وبلدة الدانا شمالي محافظة إدلب.
وأوضحت "الوزارة"، في بيان، أن من أتموا الـ14 من العمر يتوجب عليهم التقدم بطلب للحصول على البطاقة الشخصية من أمانة السجل المدني المدونة فيه قيودهم، مع إحضار وثيقة، سواء هوية أو إخراج قيد أو دفتر عائلي، بحيث تحتوي على أمانة ومحل القيد ورقمه.
مصدر بحكومة الإنقاذ: إصدار البطاقات له ضرورة جنائية
وذكر مصدر محلي مقرب من "حكومة الإنقاذ"، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "لا بعد سياسياً على الأقل في الوقت الراهن لموضوع إصدار البطاقات الشخصية، والمعروفة بالهوية في سورية".
إصدار البطاقات الشخصية بات ضرورة
واعتبر أن إصدار البطاقات لسكان الشمال الغربي من سورية "بات ضرورة، ويلبي حاجة آلاف الناس الذين ليس لديهم بطاقات شخصية في الوقت الراهن"، مضيفاً: لا يستطيع الكثيرون الذهاب إلى مناطق النظام للحصول على هويات أو دفاتر عائلية.
وتابع: هناك جيل كامل في الشمال الغربي من سورية، والمولود قبل انطلاق الثورة بعدة سنوات، بلا أوراق ثبوتية على الإطلاق. وأشار إلى أن الكثير من النازحين إلى الشمال الغربي من سورية "فقدوا أوراقهم الثبوتية، لذا بات لزاماً إصدار بطاقات تعريفية لهم"، مضيفاً أن أولاد العسكريين المنشقين عن النظام بلا بطاقات شخصية.
وبيّن أن إصدار البطاقات "له ضرورة جنائية في منطقة غير مستقرة أمنياً وتحدث بها الجرائم". وأضاف أنه يجب أن يكون لدى الجهاز الأمني في المنطقة بيانات تفصيلية عن السكان لأسباب جنائية بحتة.
وأوضح أن المدارس في محافظة إدلب "لم تعد تقبل دخول الأطفال من دون بطاقات شخصية أو دفاتر عائلة". ولفت إلى أن "هيئة تحرير الشام" تعترف بكل الوثائق الصادرة عن النظام حتى اللحظة، لأنه لم يكن هناك بديل لها.
وتسيطر الهيئة على مناطق الشمال الغربي من سورية، الذي يضم جانباً كبيراً من محافظة إدلب، وبعض القرى في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، وقرى وبلدات في ريف حلب الشمالي الغربي. وتضم مناطق سيطرة "تحرير الشام" نحو 4 ملايين، جلهم نازحون أو مهجرون من كل المحافظات السورية، يعيشون في ظروف معيشية بالغة القسوة في ظل ندرة فرص العمل.
وبعد أكثر من عقد على الصراع، تحولت سورية إلى مناطق نفوذ إقليمي ودولي من خلال جهات محلية، حيث تعد منطقة النظام مجال نفوذ للروس والإيرانيين، بينما الشمال الذي تسيطر علىه فصائل المعارضة منطقة نفوذ للأتراك، والشمال الشرقي من سورية الواقع تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) مجال للنفوذ للأميركيين.
4 "حكومات" تكرس الانقسام
وتحكم سورية اليوم أربع حكومات، وكل واحدة لها قوانينها الخاصة بها، وهو ما يؤسس لحالة انقسامية تتكرس يوماً بعد يوم. وكانت المجالس المحلية في مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية بدأت منذ العام 2018 بإصدار بطاقات ووثائق ثبوتية لتنظيم الحياة الاجتماعية لسكان هذه المناطق، التي تضم هي الأخرى عدداً كبيراً من النازحين والمهجرين.
وقال مدير وحدة تحليل السياسات في مركز "الحوار السوري" محمد سالم، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "تحرير الشام تحاول في كل فرصة إثبات أنها سلطة لديها حكومة وقادرة على ضبط المنطقة".
رسائل سياسية لمختلف الفاعلين
وأضاف: لا شك أن إصدار بطاقات شخصية يحمل رسائل سياسية لمختلف الفاعلين، ولكن ذلك لا ينفي وجود ضرورات إدارية وحوكمية لمثل هذا الإجراء الذي يفترض أن يكون موحداً على مستوى شمال سورية، على الأقل لمنع مزيد من الشرذمة التي أنهكت المواطنين السوريين.
وفي السياق، قلل المحامي في "اتحاد المحامين الأحرار" عبد الناصر حوشان، في حديث مع "العربي الجديد"، من أهمية البطاقات التي تصدرها "الهيئة" من الناحيتين السياسية والقانونية.
وأشار إلى "أن حكومتي الإنقاذ في إدلب التابعة لهيئة تحرير الشام، والمؤقتة المنبثقة عن الائتلاف الوطني في شمال سورية، ليس لديهما اعتراف قانوني دولي، ومن ثم لا تعويل على أي إجراءات تقومان بها". وأضاف: الهوية هي مجرد بطاقة تعريف للأشخاص المقيمين في مناطق نفوذ هاتين الحكومتين، ولا أثر قانونيا لها، بمعنى أنها لا تُسقط جنسية ولا تمنح جنسية.
قلل عبد الناصر حوشان من أهمية البطاقات التي تصدرها "الهيئة" من الناحيتين السياسية والقانونية
وأشار إلى أن البطاقات التي تصدرها "الهيئة" في إدلب أو المجالس المحلية في شمال سورية "لا مساوئ لها على أرض الواقع". وقال: هناك أجيال كاملة وُلدت في مناطق النزوح والتهجير القسري، وهناك جيل كانوا أطفالاً عندما بدأت الثورة ولم يتم تسجيلهم في سجلات الأحوال المدنية السورية، وهناك من فقد الوثائق أثناء القصف أو التهجير.
وأوضح أن النظام السوري "عطّل عمليات التسجيل في الأحوال المدنية في عدة محافظات منذ العام 2011 وحتى اليوم، ما يعني وجود جيل كامل غير مدون في سجلات النفوس"، مضيفاً: هذا الأمر له تبعات كثيرة، أبرزها أن جيلاً كاملاً بات عديم الجنسية، وهذه مسألة خطيرة تؤثر على مستقبل هذا الجيل.
وجود أجانب في شمال سورية
ولفت حوشان إلى أمر يراه "بغاية الأهمية"، وهو وجود أجانب في الشمال والشمال الغربي من سورية، مشيراً إلى أن الشمال السوري تحول إلى "نقطة عبور للبشر، سوريين وغير سوريين، كما أصبح منطقة تهريب مخدرات، أي أنها جاذبة للعصابات الخارجة على القوانين".
وأضاف: عندما يتم إصدار بطاقات تعريفية للسوريين في الشمال فإنه يمكن معرفة الأجانب والمجرمين وشبكات التهريب والمافيا المنظمة. وأوضح أن "هناك أجانب أتوا إلى سورية للمشاركة في الصراع تزوجوا من سوريات بعقود شرعية، وقد وُلد أطفال نتيجة هذه الزيجات، ومن ثم بات من الضروري تنظيم هذا الأمر من خلال إصدار الوثائق.
ودعا حوشان إلى وجود "سجل خاص بالأجانب وبطاقات تعريف"، مضيفاً: من الضروري وجود قاعدة بيانات للأجانب في الشمال لحل الكثير من المشاكل، لحفظ حقوق الأطفال، وهذا الأمر لا يغيّر شيئاً من الواقع في سورية، ولا يمنح الجنسية السورية لهؤلاء الأجانب.