طوت فرنسا، أول من أمس الاثنين، صفحة دامت تسع سنوات ونيّف، مع إعلانها انسحاب آخر جنودها، ضمن قوة "برخان"، من مالي. ولم يكن الانسحاب مفاجئاً، بعد أشهر من التحضير له، لكنه ترجم في الواقع هزيمة معنوية لباريس، بعد توتر علاقاتها مع باماكو، إثر انقلابين عسكريين هناك، في أغسطس/ آب 2020 ومايو/ أيار 2021، ثم استعانة العسكريين الماليين، بقيادة أسيمي غويتا، بمرتزقة جماعة "فاغنر" الروسية.
استراتيجية ماكرون
ومع أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سعى في يوليو/تموز الماضي خلال جولة في أفريقيا إلى طمأنة عدد من الدول، خصوصاً الواقعة في غرب القارة، بأن فرنسا ستعتمد "استراتيجية" جديدة لمكافحة الإرهاب، إلا أن منسوب الشكوك حول قدرة باريس على أداء مهمات عسكرية جديدة ارتفع بعد خروج "برخان".
وأوضحت الرئاسة الفرنسية مساء الاثنين أن "باريس تبقى ملتزمة في منطقة الساحل"، وكذلك في "خليج غينيا وفي منطقة بحيرة تشاد مع كافة الشركاء الملتزمين بالاستقرار ومكافحة الإرهاب".
وذكرت أن فرنسا قررت في 17 فبراير/ شباط الماضي، بعدما استنتجت أن "الشروط السياسية والتشغيلية لم تعد متوفرة للبقاء في مالي"، إعادة تنظيم قوتها برخان "خارج الأراضي المالية".
تييري بوركهار: المشاعر المعادية لفرنسا والغرب أصبحت حقيقة
وأشادت الرئاسة الفرنسية بالتزام العسكريين الفرنسيين "الذين قاتلوا مدى تسع سنوات الجماعات الإرهابية المسلحة" في منطقة الساحل، و"ضحى 59 منهم بأرواحهم في سبيل ذلك".
وشدّد ماكرون على أن "تضحيتهم تلزمنا وتذكرنا بأن جنودنا حافظوا خلال هذه السنوات على وحدة مالي ومنعوا إقامة خلافة في أراضيها وكافحوا الجماعات الإرهابية التي تهاجم المجتمعات المحلية وتهدد أوروبا".
وأشار الرئيس الفرنسي إلى أن فاعليتهم "طوال هذه السنوات كلها وحتى الأيام الأخيرة هذه برهنها تحييد غالبية كبار كوادر التراتبية الهرمية في المجموعات الإرهابية الساحلية".
وفي انتقاد ضمني للسلطات المالية المنبثقة عن انقلابين أكد الرئيس الفرنسي عزمه على "متابعة هذا الالتزام إلى جانب كل الدول التي اتخذت خيار مكافحة الإرهاب وصون الاستقرار والتعايش بين المجتمعات"، في غرب أفريقيا.
وذكرت وزارة الجيوش الفرنسية، في بيان، الاثنين، أن "قوة برخان وبعد تسعة أعوام على وجودها في مالي، أعادت تنظيم نفسها خارج البلاد في أقل من ستة أشهر".
وأكدت أن "هذا التحدي العسكري اللوجستي الكبير رُفع بشكل منظم وبأمان، وكذلك بشفافية كاملة وبتنسيق مع مجمل الشركاء". وفي تغريدة على "تويتر"، تعهّد وزير الجيوش الفرنسية، سيباستيان ليكورنو، بأن فرنسا لن تتراجع عن هدف الرئيس إيمانويل ماكرون المعلن المتمثل في "محاربة كل إرهابي في مالي".
وأضاف أن "التزام فرنسا بمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل سيستمر، وهذا هو معنى الأجندة الجديدة التي يتمناها إيمانويل ماكرون مع أفريقيا، والتي ستستند إلى تعزيز التعاون مع دول المنطقة، مثل النيجر".
وأطلقت فرنسا في يناير/كانون الثاني 2013 عملية "سيرفال" بهدف وقف تقدم الجماعات المسلحة نحو جنوب مالي ودعم القوات المالية. وتمكنت العملية، التي كانت رأس حربة التدخل العسكري الدولي، من طرد جزء كبير من الجماعات الجهادية من شمال مالي بعد أن احتلت المنطقة في 2012.
وفي الأول من أغسطس/ آب 2014، خلفتها عملية "برخان" لمكافحة الجهاديين، بقيادة فرنسا مع خمس دول في منطقة الساحل والصحراء هي موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد.
وبلغ عديد العناصر الميدانيين لهذه القوة 5500 جندي في عام 2020. وسيُخفّض الوجود العسكري في منطقة الساحل بحلول نهاية العام الحالي إلى النصف مع 2500 عسكريّ.
ووافقت النيجر على إبقاء قاعدة جوية في نيامي و250 جندياً فرنسياً لعملياتها العسكرية على الحدود المالية. وستواصل تشاد استضافة قاعدة فرنسية في نجامينا وتأمل فرنسا في الحفاظ على كتيبة من القوات الخاصة في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو.
وتبحث فرنسا مع دول أخرى في غرب أفريقيا تقديم دعم لها في سياق "استراتيجية" جديدة، يُفترض أن تتضح في الخريف المقبل، وفق قول ماكرون في يوليو الماضي: "سنعيد التفكير في كل شيء بحلول الخريف (الترتيبات العسكرية الفرنسية) في القارة الأفريقية".
وتحاول باريس العمل على إرساء الأمن، خصوصاً في خليج غينيا (يضمّ: أنغولا، بنين، توغو، جمهورية أفريقيا الوسطى، جمهورية الكونغو الديمقراطية، ساو تومي وبرنسيب، السنغال، سيراليون، الغابون، غامبيا، غانا، غينيا، غينيا الاستوائية، غينيا بيساو، الكاميرون، كوت ديفوار، ليبيريا، ونيجيريا). لكن التدخلات العسكرية الفرنسية ستتحول إلى "قوات أصغر حجماً وأقل عرضة للخطر".
وترمي الاستراتيجية الجديدة إلى تجنّب خلق عدائية لدى السكان ضد القوة الاستعمارية السابقة، بدفع من الانعدام المستمر للأمن تؤججها بحسب باريس حملات تضليل متعمّدة على شبكات التواصل الاجتماعي.
ونقلت "إذاعة فرنسا الدولية" عن النقيب يان (لم تذكر اسمه كاملاً) الذي كان آخر جندي يغادر قاعدة غاو في شمال شرقي مالي قوله إنه "علينا إنهاء مهمتنا بشرف، وترك صورة جيدة عن فرنسا، التي تملك تاريخاً طويلاً مع مالي. المغادرة بشرف تعني الوفاء لقيمنا".
وبدا واضحاً الاشتباك الفرنسي ـ المالي، ودخول "فاغنر" على الخط، من نفي باماكو أن تكون قد طلبت تدخل المرتزقة الروس، لكنها في المقابل، طالبت ماكرون الشهر الماضي بالتخلي عن "نزعته الاستعمارية الجديدة"، على حد تعبير المتحدّث باسم الحكومة الكولونيل عبد الله مايغا، الذي اتهم باريس بإثارة الكراهية العرقية.
وجاء موقف مايغا في معرض ردّه على تصريحات أدلى بها ماكرون في غينيا بيساو، اعتبر فيها أن "الخيارات التي اتخذها المجلس العسكري المالي وعمله مع مجموعة فاغر غير فعالة في مكافحة الإرهاب".
ويقول محلّلون إن فرنسا وجدت نفسها في مالي عالقة بين منطق سياسي يفرض عليها الخروج بأسرع وقت ممكن وبين منطق فاعلية عسكرية يحضّها على البقاء إلى أن تصبح القوات المسلحة المحلية قادرة على الاضطلاع بالمسؤولية.
وقال خبير شؤون منطقة الساحل في "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" آلان أنتيل لوكالة "فرانس برس": "نعلم حالياً ومنذ تجربة أفغانستان أن عملية خارجية مع قوات غربية عدة، لا يمكنها أن تستمر ميدانياً إلى الأبد"، مشدّداً على "محدودية" تحكم "العمليات الكبرى التي تضم أعداداً كبيرة من العناصر وتتطلّب حضوراً ميدانياً كبيراً" فضلاً عن التبصّر السياسي.
واعتبر أنتيل أن التحوّل نحو "مزيد من الدعم القتالي من بعض من كتائب الجيوش الوطنية وعمل القوات الخاصة والدعم الجوي سيجعل الحضور السياسي الظاهر لفرنسا أقل بكثير من دون التفريط بالفاعلية".
وتخشى دول أفريقية عدة أن يؤدي الانسحاب الفرنسي من مالي إلى تراجع عسكري عام، ما يدفعها إلى محاولة ترتيب الأوضاع عبر القيام بتحالفات إقليمية ودولية. وما يزيد من مخاوف دول أفريقية عدة هو تصاعد الاعتداءات في الأسابيع والأشهر الأخيرة، خصوصاً في مالي أو بوركينا فاسو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، على وقع ارتفاع الأسعار عالمياً بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، وتفشي أوبئة عدة، مثل جدري القرود وكورونا في القارة الأفريقية، فضلاً عن انعدام الاستقرار السياسي في بلدن مثل إثيوبيا وكينيا وأفريقيا الوسطى.
وكلها عوامل تجعل من "محاربة الإرهاب" أمراً أصعب من قبل. واستذكرت صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، أمس، كلام رئيس أركان القوات المسلحة الفرنسي، الجنرال تييري بوركهار، في يوليو الماضي، الذي قال إنه "أصبحنا في نقطة تحول. المشاعر المعادية لفرنسا والغرب أصبحت حقيقة".
وأضاف أن "الأهداف الجديدة لفرنسا تتلخّص في مواصل مكافحة الإرهاب"، لكن انطلاقاً من النيجر وبوركينا فاسو، مشدّداً على أنه "لن يتم تنفيذ المزيد من العمليات في مالي". ورأت الصحيفة أن هذه المهمة ستترك الجيش المالي و"فاغنر" بمفردهم في مواجهة المسلحين.
غير أن بوركهار أوضح أن التعاون الأمني سيكون على خليج غينيا، مبدياً خشيته من تنامي "التهديد الإرهابي" من جنوب منطقة الساحل. ولا يوضح الجنرال الفرنسي طبيعة التعاون الجديد، لكنه حدد "مواجهة النفوذ الروسي في منطقة الساحل"، كطموح فرنسي.
ونقلت "لو فيغارو" عن مصدر عسكري تأكيده أن المسلحين كانوا، عبر تصعيد اعتداءاتهم، يختبرون جيوش منطقة الساحل في الأسابيع الأخيرة.
إيف غاستان: رحيلنا سيتيح للجهاديين مواصلة عملهم الشرير
وذكرت "إذاعة فرنسا الدولية" أن النجاحات التي حققتها القوات الفرنسية في مالي، مثل قتل زعيم "القاعدة في المغرب الإسلامي" عبد الملك دروكدال في يونيو/ حزيران 2020، وقتل زعيم "داعش في الصحراء الكبرى" عدنان أبو وليد الصحراوي في أغسطس 2021، أصبحت وكأنها من الماضي البعيد.
ونقلت الإذاعة عن قائد قوة "برخان" الكولونيل إيف غاستان قوله إن "المهمة أُنجزت"، مشيرة إلى أنه أبدى قلقه على مالي، بعد انسحاب "برخان" من قاعدة، التي مثلت لتسع سنوات أكبر قاعدة للجيش الفرنسي في أفريقيا.
وأشار غاستان إلى أن "مغادرة قوة برخان ستخلق فراغاً"، متمنياً أن "تكون الحكومة المالية قادرة على مواصلة القتال ضد المسلحين. لكن من الواضح أن رحيلنا سيفتح ممرات للجهاديين الذين سيواصلون عملهم الشرير".
مقتل عناصر من "فاغنر"
وتؤكد الأخبار الأخيرة من مالي صحة كلام غاستان، بعد إعلان "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، أول من أمس الاثنين، أنها قتلت 4 عناصر من "فاغنر"، في "كمين قرب باندياغارا في وسط مالي".
وذكرت الوحدة الإعلامية للجماعة في بيان أن "مقاتليها اشتبكوا مع المرتزقة السبت الماضي في إقليم موبتي"، وذلك بحسب ترجمة للبيان من مجموعة "سايت" التي ترصد تصريحات الجماعات الجهادية.
وفي 22 يوليو الماضي، أعلنت الجماعة نفسها مسؤوليتها عن هجوم على قاعدة كاتي العسكرية الرئيسية في مالي، التي تبعد 15 كيلومتراً عن العاصمة باماكو، وقالت إنه "كان رداً على التعاون الحكومي مع فاغنر".
ولفرنسا تاريخ عسكري طويل في أفريقيا، تحديداً بعد نيل مستعمراتها السابقة استقلالها. وخلال 5 عقود، تدخلت فرنسا عسكرياً نحو 40 مرة في الأراضي الأفريقية باسم "حماية السكان المدنيين" أو "تطبيق اتفاقات دفاعية ثنائية".
ومنذ نحو عقدين باتت القوات الفرنسية تعمل إلى جانب القوات الأفريقية والغربية وقوات الأمم المتحدة. وأبرز التدخلات الفرنسية كان في أفريقيا الوسطى، في عام 1979، حين أدت عملية "كابان" إلى إطاحة الإمبراطور بوكاسا (جان بيديل بوكاسا).
وبين عامي 1996 و1997، شكّلت باريس عملية "ألماندين" التي أجلت 1600 أجنبي من بانغي بعد وقوع أعمال تمرّد، ثم تدخلت فرنسا عسكرياً بعد اغتيال جنديين فرنسيين.
وبعد الانقلاب على الرئيس فرانسوا بوزيزي في عام 2013، نشرت باريس قوة "سانغاريس" التي ضمت نحو 1600 عسكري واستمرت حتى عام 2016. وتدخلت فرنسا في ليبيا عام 2011، في إطار حلف شمال الأطلسي، ضد قوات العقيد معمر القذافي.
وشارك نحو 4200 جندي فرنسي و40 طائرة ونحو 20 طائرة هليكوبتر و27 سفينة تابعة للبحرية الفرنسية في العملية التي أدت بعد سبعة أشهر إلى سقوط النظام.
(العربي الجديد، الاناضول، رويترز، فرانس برس)