اعتبر لطفي زيتون، الذي كان من أقرب النهضويين لزعيم الحركة راشد الغنوشي، والذي استقال من جميع المسؤوليات داخل "النهضة" التونسية، أن "الحركة تتلهى بمشاغل لا تهم الناس، ومنها رئاسة الغنوشي للحركة". وتوقع أن الحركة "ستشهد تقهقراً وليس تقدماً". وقال "ارتكبنا مجموعة كبيرة من الأخطاء السياسية... تحالفات... تبرؤ سياسي... أنا غير متفائل بما سيحدث داخل الحركة". هذا التصريح مؤشر جديد على أن أزمة الحركة مرشحة لمزيد التفاقم والتصعيد.
ليست استقالة زيتون الأولى ولن تكون الأخيرة. في كل أسبوع على الأقل يقرر البعض الانسحاب بشكل علني عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، أو يفضلون أن يكون انسحابهم صامتاً. يبرر هؤلاء موقفهم بكونهم فقدوا الشجاعة للدفاع عن مواقف الحركة، ولم يعودوا مقتنعين بما يتخذه الغنوشي من قرارات.
كلما اقترب موعد انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحركة تصاعدت درجات التوتر في صفوف النهضويين
وكلما اقترب موعد انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحركة تصاعدت درجات التوتر في صفوف النهضويين، وتعددت المناورات في صفوفهم. فالتحذيران الأول والثاني اللذان أرسلهما مائة قيادي إلى الغنوشي من أجل ثنيه عن التمسك برئاسة الحركة لم يغيرا من موقفه. بل على العكس من ذلك أثارا غضبه، واعتبر المبادرة "خطيرة على الحركة"، مطالباً الجميع بضرورة التمييز بين رئاسة الحركة وموقع "الزعيم" فيها. وهو ما كشف عن نيته الذهاب في هذا الطريق إلى الآخر مهما كانت النتائج.
حرصاً على حماية الحركة من التصدع والانقسام، بادر كل من رئيس مجلس الشورى عبد الكريم الهاروني، وصهر الغنوشي، رفيق عبد السلام، باقتراح حل وسط. وتمثل الحل أولاً في ترحيل تاريخ المؤتمر إلى موعد لاحق لا يقل عن سنتين أو أكثر بحجة وباء كورونا، والحاجة إلى نقاش معمق حول أسباب تراجع القاعدة الانتخابية للحركة، والتوصل إلى "حسن إدارة الاختلاف، وسنّ ميثاق أخلاقي بين المنخرطين يضبط العلاقات، ويعقلن الخطاب ويجنب حالة الفوضى والمناكفات السياسية والإعلامية، مثلما يضمن الحد الأدنى من الاحترام والتضامن بين أبناء الحركة الواحدة".
أما المسألة الثانية التي أثارت ردود فعل عاصفة في صفوف المعارضين للغنوشي، فقد دعا الثنائي إلى "الفصل بين رئاسة الحركة والترشح للمناصب العليا في الدولة بعد انتخابات 2022. ومن ذلك الإعلان رسمياً في المؤتمر المقبل للحركة بأن "الزعيم المؤسس" للحركة هو المرشح الرسمي للمناصب السيادية في الدولة، وتقنين ذلك على مستوى النظام الأساسي". واعتبرا أن هذا المنصب الجديد، وما يترتب عنه من مهام هو الذي يليق بـ"الدور الريادي الذي يضطلع به زعيم الحركة راشد الغنوشي، سواء من جهة موقعه في الدولة، أو من جهة مكانته وسابقته في الحركة، أو نسيج علاقاته الخارجية". وقد أعادت هذه المبادرة إلى الأذهان ما ورد في رد الغنوشي على رسالة المائة، والتي تم التبرؤ منها بعد وصولها إلى وسائل الإعلام. وأكد الغنوشي فيها أن "هناك خلطاً متعمداً بين مقتضيات مجالين مختلفين، وهما الحزب والدولة. فتحديد المدة بدورتين معروف في رئاسة الدول الديمقراطية. أما ديمقراطية الأحزاب، فالتداول المعروف فيها يتحقق بالتجديد الدوري أو عدمه لقياداتها".
أثارت محاولة إثناء الغنوشي عن التمسك برئاسة الحركة غضبه
بدل أن تحقق هذه المبادرة التقريب بين طرفي النزاع، فقد عمقت الهوة، وغذت الخلاف بين "الإخوة" الذين هم حالياً بصدد التحول إلى خصوم وأعداء. واعتبر الرافضون لبقاء الغنوشي على رأس الحركة أن تأجيل المؤتمر ليس إلا مناورة لربح الوقت وتجاوزا صريحا لقانونها الداخلي. أما بالنسبة لاستحداث منصب "الزعيم المؤسس" فقد فسروا الاقتراح بكونه "انقلاباً على الديمقراطية الداخلية"، وتأبيداً لوصاية الغنوشي على الحركة، من خلال منصب الزعيم الذي سيكون وحده المرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستنظم في سنة 2024.
نعم الغنوشي متمسك بأن يبقى الرجل الأول والأقوى تنظيمياً داخل الحركة، التي لا يزال يعتبرها ثمرة الجهود التي بذلها منذ التأسيس وصولاً إلى الحكم. كما أنه يفكر أيضاً في أن يدخل قصر قرطاج كرئيس لتونس. حلم لازمه منذ أن عاد إلى تونس من دمشق مطلع سبعينات القرن الماضي. هذه الرغبة في ممارسة السلطة فاجأت أنصاره أكثر من خصومه. هؤلاء الأنصار الذين يقرون له بالمكانة والصمود طيلة نصف قرن، ويسلمون بالمكانة الدولية التي يتمتع بها، ويشهدون له بالقدرة على المناورة، وكسب أصدقاء للحركة ساعدوها على أن تصبح رقماً صعباً داخل تونس. كما يقرون له بنوع من الدهاء السياسي جعله مقبولاً على الساحة الدولية.
لكن في المقابل، أصبح الكثير منهم يشعرون بكونهم قد أصبحوا رهائن لطموح شخصي أكثر من التزامهم بمشروع جماعي. من جهة أخرى، يدركون بأن رئيس حركتهم قد تقدمت به السن، وأن رئاسة الدولة مسؤولية جسيمة تتطلب الكثير من الجهد والإحاطة والرؤية الواضحة، والقدرة على تجميع المواطنين حوله، ويرون فيه المنقذ. ويعتقدون أن ذلك غير متوفر حالياً، وهو ما تثبته مختلف استطلاعات الرأي التي نظمت حتى الآن، والتي بينت بوضوح أن الغنوشي يأتي دائماً في آخر السلم للرد عن السؤال المتعلق بمدى ثقة التونسيين في الشخصيات السياسية. لهذا يتساءل الكثير من أبناء الحركة عن مدى استعداد "النهضة" للمجازفة بتقديم زعيمها لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة. هكذا أصبح وضع أكبر حركة في تونس، يسوده الغموض، وتشقه الصراعات، وتلاحقه سلسلة من الإخفاقات. هذه النتيجة المؤلمة التي توصل إليها عديد القياديين في الحركة.