تعيش إيطاليا، كغيرها من دول القارة العجوز، على وقع تحولات اجتماعية سياسية، تمنح معسكرات الشعبويين والنازيين والفاشيين الجدد، دفعة إلى الأمام على رياح الأزمات المتلاحقة. ويتصاعد بشكل لافت دور ومكانة هذه المعسكرات في القارة، وإن على المستوى المدن والقرى والولايات، كما في ألمانيا وإسبانيا في الحالة الشعبوية، وعلى المستوى الوطني في إيطاليا في الحالة الفاشية، بعد سنوات قليلة على تأسيس بروز هذه التيارات.
وتكشفت خلال السنوات القليلة الماضية، في إيطاليا، الاندفاعة الفاشية للاستحواذ على النفوذ، بل على الحكم بثوبٍ سياسي عصري. أحدث مثال على ذلك، ما حققته الحركة الفاشية أخيراً من فوزٍ تاريخي في إقليم مارشي، غربي البلاد، خلال انتخابات الأقاليم، منتزعةً الحكم من يد اليسار الذي صمد في الإقليم 25 عاماً. هذا الفوز في معقلٍ لليسار، قد يعود الفضل فيه لاستغلال ائتلاف في انتخابات المناطق، قاده زعيم حزب "العصبة" (ليغا) ماتيو سالفيني، للكاريزما المتزايدة التي تتمتع بها السياسية جيورجيا ميلوني، زعيمة الحركة الفاشية "إخوة إيطاليا" (فراتيلي ديتاليا). وفاز مرشح هذه الحركة، فرانشيسكو أكوارولي، في مارشي، حيث تخطى نسبة 46 في المائة من الأصوات، وبأكثر من عشر نقاط على مرشح اليسار، موريزيو مانغيالاردي، ما يمنح "إخوة إيطاليا" المقعد المناطقي الثاني في البلاد، بعد أبروتزو، في الوسط. واستغلت ميلوني، في الانتخابات التي جرت يومي الأحد والإثنين الماضيين، انضمام نحو سبعة آلاف مواطن من الإقليم إلى طوابير البطالة، ووفاة نحو ألف من سكانه بجائحة كورونا، لاعبة كذلك على وتر تشرد نحو 30 ألف مواطن في زلزال عام 2016، حيث لا تزال آثار الدمار ماثلة، مع تأخر إعادة الإعمار. ويُعبّر أبناء مارشي باستمرار عن سخطهم من تركهم لمصيرهم، ولفساد شركات البناء.
تكشفت خلال السنوات الماضية في إيطاليا الاندفاعة الفاشية للاستحواذ على النفوذ، وعلى الحكم بثوبٍ سياسي عصري
وكانت ميلوني قد وضعت نفسها على الخريطة السياسية الإيطالية، منذ أعوام، بقيادتها بكثير من الجرأة، للحركة الفاشية "إخوة إيطاليا". وتعترف السياسية الإيطالية بما تصفه بالفاشية "العصرية"، منتقدة الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني، فقط لسياساته المتعلقة بالتطهير العرقي "مجاراةً للزعيم النازي أدولف هتلر".
كاريزما نسوية فاشية
ذكاء ميلوني الفاشي، جعلها تقرّب منها "أحفاد موسوليني"، بل وتصدرهم لـ"إخوة إيطاليا"، ضمن سياسة "شفط الأصوات" الإيطالية التي تحنّ للماضي الفاشي للبلاد. ودفع خطاب ميلوني الكاريزمي وسائل إعلام إيطالية، وغربية، إلى إطلاق تكهنات خلال السنوات الماضية، حول إمكانية وصولها إلى سدّة الحكم في روما.
في تعريفها عن نفسها، يمكن الرجوع إلى خطاب هذه السياسية خلال الاحتفاء الجماهيري الضخم بها، بمشاركة نحو 100 ألف شخص في ميدان سان جيوفاني فى روما، في 19 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. حينها، ووسط تصفيقٍ حاد وشاشتين عملاقتين، قدمت ميلوني نفسها قائلةً "أنا جيورجيا، أنا أمٌ، وأنا مسيحية، وذلك لا يمكن لأحد أن يحرمني إياه".
التقديم العاطفي لجمهور يعرف هذه السياسية التي تشغل بال المحللين والشارع بصعودها، لم يكن الهدف منه التذكير باسمها، بل بتوجهاتها الفاشية التي تغلفها بما يتجاوز معسكر الشعبويين في استعراض أنفسهم كحماة لتقاليد "الأسرة والوطن والدين المسيحي". فمثل غيرها من السياسيين الفاشيين في إيطاليا، عمدت ميلوني في ذلك المساء إلى المزايدة على زعيم حزب "ليغا"، ماتيو سالفيني، الذي كان قد خرج لتوّه من حكومة ائتلافية مع حزب "خمس نجوم"، متحدثة عن "كفاح" حركتها "لوقف أسلمة أوروبا"، وعن أن "كلّ من يصل إلى إيطاليا يجب إعادته على الفور من حيث جاء". وتوجهت ميلوني أمام عشرات آلاف الأشخاص، لوزير الداخلية المتشدد، والمستقيل حينها، سالفيني، في محاولة لإحراجه، داعية إلى ضرورة التحالف الفوري والتوجه إلى انتخابات مبكرة للسيطرة على الحكم في روما، كما أمل معسكر الشعبويين حينها، وذلك قبل أن يقلب وزير الخارجية من "خمس نجوم"، لويجي دي مايو، الطاولة، ويتحالف مع عدوه التاريخي، "الاجتماعي الديمقراطي"، لتشكيل حكومة ائتلافية بزعامة جوزيبي كونتي، الصامدة حتى الآن.
هذا الصمود والاستقرار اللذان يتمتع بهما حكم كونتي لم يثنيا ميلوني عن مساعيها لإطلاق حملة سياسية، قبل تفشي وباء كورونا، لزعزعة الحكم أملاً في وصول معسكر اليمين المتشدد، أقلّه، إلى الحكم. وكانت ميلوني قد حدّدت في ذلك اليوم الاستعراضي في 19 أكتوبر الماضي، موقف "إخوة إيطاليا" من الحكم، وهو الأمل بتشكيل حكومة "يمين ويمين وسط". وناشدت ذلك المعسكر الذي مثله حزبا "ليغا" الشعبوي و"فورزا إيطاليا" بزعامة رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني، وربما بقصد إحراجهما والمزايدة عليهما، بإطلاق نداء لـ"خوض النضال سوية، وسوية لا يمكن لأحد أن يوقفنا عن الوصول إلى السلطة".
منذ خطابها الشهير هذا، ونجم ميلوني، وحركتها الفاشية، في تصاعد. ولم تعد قواعد حزبها تخشى المجاهرة بالفاشية، معتبرة إياها أيديولوجيا راسخة في المجتمع الإيطالي. ويحاول مؤيدو الحركة الفاشيون، الظهور بمظهر "معصرن"، شأنهم شأن الشعبويين، في مسعى للبروز كحزبٍ "محافظ" ليس إلا.
قيم أسرية ومحاربة "أسلمة القارة"
تعتبر جيورجيا ميلوني، المولودة في عام 1977، وجهاً سياسياً معروفاً في إيطاليا، منذ أن ضمّها سيلفيو برلسكوني إلى حكومته في عام 2008 كوزيرةٍ الشباب، بعد عامين من وصولها إلى البرلمان، حين أصبحت أيضاً أصغر برلماني يتبوأ منصب نائب أو نائبة الرئيس. وحين تمّ تكليفها بحقيبة الشباب، وصفها زعيم "فورزا إيطاليا" بأنها "مفعمة بالحيوية"، متنبئاً لها بـ"مستقبل سياسي".
إثر الفضيحة المدوية التي ضربت برلسكوني وحزبه في عام 2012 (الغش الضريبي)، تفرغت ميلوني لتأسيس حركتها الجديدة الفاشية "إخوة إيطاليا"، بالتعاون مع السياسي انغازيو روسا، الذي عرفته منذ شبابها كعضو قيادي في حركة "الشباب الاجتماعية الإيطالية" (موفيمانتو إيطاليانو سوسيالي)، المعروفة اختصاراً بـ"أم أس إي". وعلى الرغم من أنه معروفٌ نشوء "إخوة إيطاليا" من رحم الفاشية، إلا أن الحركة قدمت نفسها على أنها "حركة اجتماعية محافظة، تحافظ على تقاليد الأسرة الكاثوليكية، وتخوض معارضة شديدة للإجهاض والمثلية"، وغيرها من القضايا التي رأت فيها الحركة معارضة للقيم المسيحية الإيطالية. تلك الخلفية السياسية في بيئة متشددة، إلى جانب خلفيتها الاجتماعية، كأم عزباء تعيش في ضواحي الطبقة العاملة قرب العاصمة روما، جعلت ميلوني ترى، إثر الأزمة الاقتصادية في عامي 2011 و2012، أن الوقت حان للإعلان عن ولادة حزب فاشي إيطالي جديد. وبعد أعوام قليلة على التأسيس، حصد "إخوة إيطاليا" في عام 2018، 4.4 في المائة من أصوات الناخبين، وبعد عام واحد وصلت شعبية ميلوني في استطلاعات الرأي إلى 15 في المائة، ما وضع حركتها إلى جانب حركة "خمس نجوم".
وعلى الرغم من أن مراقبين، مثل خبيرة السياسة أنتونيلا سيدوني من جامعة تورينو، يرون أن "إخوة إيطاليا" تقوم بجذب الأصوات وخطفها من معسكر سالفيني، وحزب "الرابطة"، إلا أن الفوز الأخير في الانتخابات المحلية، يدل على حالة "تطبيع" إيطالي مع وجود الحركة الفاشية في البلاد. إذاً، يؤدي تركيز ميلوني و"إخوة إيطاليا" على قيم المجتمع الإيطالي و"الدفاع عن طبيعة الأسرة" التي تنجب الأطفال بطريقة طبيعية (رفض المثلية)، دوراً مهماً في هذا الصعود. هذا إلى جانب رفع شعار "أننا إذا احتجنا إلى حفر الخنادق، فعلينا فعل ذلك، لمحاربة أسلمة بلدنا وأوروبا"، بحسب ما نقلت عن هذه السياسية الفاشية صحيفة "كوريري ديلاسييرا" خلال الحملة الانتخابية في عام 2018.
تزايد ميلوني على زعيم حزب "ليغا" ماتيو سالفيني، متحدثة عن كفاح حركتها لوقف أسلمة أوروبا
تطبيع وجود الحركة الفاشية في المجتمع الإيطالي، يعود الفضل فيه لعناد وتصميم ميلوني، وهو ما يراه أستاذ السياسة في جامعة بادوفا، ماتيو ألبانيز، "أمراً يحصل هذه الأيام، من دون أن يعتبره الشارع الإيطالي من المشاغل التي تستحق التوقف عندها، ويلعب نقد الفاشية باعتبار أن خطأها الوحيد تعاونها مع النازية الشريرة، دوراً في تطبيع وتلميع الفاشية الإيطالية". بدورها، تذكر ميلوني لـ"كوريري" أنها تعيش "سلاماً داخلياً مع نفسي حول مصطلح الفاشية، فأراه جزءاً من تاريخ أمتنا".
ولأجل تلميع الفاشية، المتصادمة منذ تأسيسها مع اليسار والحركات المعادية لها في الغرب، تستعين ميلوني بأسرة موسوليني. فقد انتخبت على قائمة الحركة حفيدة موسوليني، راشيل موسوليني (45 سنة)، لعضوية المجلس البلدي لروما. وتروج الحفيدة للفاشية وجدها بقولها إن "جدي لم يكن مجرد وحش كما جرى رسمه، فقد قام بكثير من الأمور في بلدنا، وأهمها البنى التحتية، ولا يجب النظر إلى الفاشية على أنها أمر شرير". ويضم حزب "إخوة إيطاليا"، أيضاً، ابن عم راشيل، كايو يوليوس قيصر موسوليني (51 عاماً).
تعزيز العلاقة مع شعبويي أميركا
صلات "إخوة إيطاليا" الفاشي، والذي يعمل أيضاً ضد عضوية إيطاليا في الاتحاد الأوروبي، تتجاوز العلاقة الأوروبية بالحركات الفاشية. ففي شهر فبراير/ شباط الماضي (قبل إغلاقات كورونا)، استضاف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، زعيمة الحزب في البيت الأبيض، علماً أن ميلوني تقيم علاقات جيدة بمعسكر اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، وبممثليه السياسيين والإعلاميين في واشنطن. وتبدي ميلوني إعجابها بهذا المعسكر، بحسب ما نقل عنها موقع "هافينغتون بوست" بنسخته الإيطالية، لناحية "وصفته لحماية بلدنا وشركاتنا وحدودنا الوطنية وأسرنا".
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لم يعد سرّاً تعزز علاقة الفاشية الإيطالية بأخواتها في أوروبا، خلال السنوات الماضية، بفضل نشاط منسق اليمين القومي المتطرف في القارة، مستشار ترامب السابق، ستيف بانون، الذي عمل عرّاباً لجمع ذلك المعسكر، الذي يختلط فيه الشعبويون مع أقصى اليمين المتطرف. وقبل عامين، عقدت ميلوني مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع بانون، الذي توجه لها بقوله "أنتم وحزب ليغا، يمكنكم التشويش على النظام السياسي في إيطاليا، تماماً كما فعل حزب نايجل فاراج، يوكيب، في بريطانيا، ومثلما يفعل ترامب في أميركا".
استغلت الحركة الفاشية بزعامة ميلوني أزمة كورونا، وتراخي أوروبا في مد يد العون لإيطاليا، للتبشير بخطاب الانسحاب من منظومة الاتحاد الذي اعتبرته أنه "على وشك الانهيار". ولا ترى هذه السياسية الفاشية مشكلة في مواجهة مراكب الهروب عبر البحر إلى سواحل أوروبا، باستخدام القوة، وهي تواصل استغلال تكديس صقلية ولامبيدوزا مهاجرين جدداً، لتطلق حملة قوية هدفها جذب الناخبين. وخلال الحملة الانتخابية الأخيرة للانتخابات المحلية، لم تتردد "إخوة إيطاليا" في اعتبار الانتخابات مقياس الشعبية وتطبيع وجود الفاشية في البلد. لكن التركيز يبقى أخيراً، على إمكانية تحقيق اختراق كبير في الانتخابات البرلمانية، إن حصلت مبكراً، أو تلك المقررة بعد ثلاث سنوات. ويراهن الفاشيون على شعبية زعيمتهم، لكي تتجاوز شعبية ماتيو سالفيني، رغم أن ميلوني لا تزال ترفض الاتهامات الموجهة إليها بزعزعة النظام السياسي لكي تقود حكومة يمينية في البلاد.