"أبو الخيزران" في السياسة العربية

27 اغسطس 2021
يعيش السوري مرحلة "مواطن دبر راسك" (لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -

لم تكن رمزية "أبو الخيزران"، والموت الثلاثي اختناقاً في خزان لم تُقرع جدرانه، في رائعة غسان كنفاني، "رجال في الشمس"، تختص بالفلسطيني وحده. فسؤال المُهرب المهزوم: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ بعد رمي جثث ثلاثة أجيال فلسطينية في مكب نفايات، يكاد ينسحب على معظم المأساة العربية، في ظل حكام لا يختلفون كثيراً عن "أبو الخيزران".
ففي يوميات سياسة الخزانات العربية، أو إقطاعيات الحاكم وحاشيته، لم يعد مجرد خيال روائي تحويل الأوطان إلى مكبات نفايات لمواطنيها، وهمها المشترك ألا تقرع جدرانها. فثمة "أبو خيزران" بأوجه مختلفة، بعضهم ببذة أنيقة كـ"نائب عن الأمة" وآخرون بلباس "ثوري"، يلتقون على قياس الأوطان بقدر ما تتيحه من سمسرة ونهب، بانتهازية متأصلة ومتوارثة.
ليس لبنان وحده الذي يحيله هؤلاء إلى هم تأمين رغيف الخبز وشربة ماء ودواء وحليب لأطفاله، وتحويل مواطنيه إلى "أبطال خلاص فردي". فالجار السوري عاش، ويعيش، ذات خطاب "مواطن دبر راسك"، وسط شيوع تاريخي لفساد وإفساد منهجي، ممتد إلى ما هو أبعد بكثير من مشرق عربي، عاش حرفياً في عراق ما بعد 2003، وتحول إلى مكب جثث.
مشكلة العربي، من مشرقه إلى مغربه، ليست فقط مع خطاب تفسير كل مآسيه بـ"المؤامرة" ومع هذا النموذج من الطبقات الحاكمة، بل أيضاً في وجود نخب ومصفقين ومقدسين للحاكم، يعتاشون على فتات كل "آباء الخيزران"، محولين احتقار الوعي إلى ناظم، حصر مهمة "الزعيم" المقدسة في "إصلاح دين شعبه" من ناحية، وتوكيد أن اختيار الشعب لنوابه وممارسة الديمقراطية "خطر" على البلاد، وآخرين يستعيدون تجارب "ملوك الطوائف"، في أغلب النواحي. هؤلاء، من زبانية الحكام، يزيدون جرعة مأساة العربي، باستنكار وتحريم قرع الجدران، لطمأنتهم إلى أن شعوبهم تسير في طريق التدجين، وأنهم يصبحون أسرى لقمة العيش، وحبيسي شفاعتهم بـ"مكرمة" هنا وهناك.
وفي كل الأحوال، إذا لم تكن رمزية "أبو الخيزران" عند كنفاني صالحة للفلسطيني فحسب، في تمرده ورفضه التدجين، فإن التشاؤم المراد له تسيد الحالة العربية، مع كل ما يتولد من إحباطات، أبداً لن يصبح قدراً محتوماً ومسلماً به. وتجارب أمم كثيرة تؤكد استحالة تحول الشعوب إلى قطيع، بانتظار تراكم جثثها على مكبات النفايات، رغم كل أوهام سماسرة وانتهازيي حراس حدود قصور الحكام.

المساهمون