السلفيّة والصوفيّة.. مشيختان في طريق واحد

17 اغسطس 2014

شيوخ سلفيون في تظاهرة في الأردن (سبتمبر/2012/Getty)

+ الخط -

غريب حقاً أن نجمع بين متناقضين، ونبحث في الشبه بينهما، بينما يفرّق بينهما المنهج والفكرة والواقع، حيث لا يكون من داعٍ لمقارنة لا تُرتجى منها نتائج وخلاصات. لكن البحث في المتناقض، وتعرية بعض أسسه، وحدهما الكفيلان بتقديم حقيقة مكوّنات المقارنة وعناصرها التي تغيب بعض حقائقها عند النظر إلى كل واحدة منها مفصولة عن الأخرى. وفي الحالة التي نرمز إليها هنا، نود مقارنة خطاب شيخ التنظيم السلفي الوهابي وسلوكه، مع غريمه، شيخ الطريقة، أو الجماعة الصوفية، بغية التأمل في بعض ملامح الأنموذج السلفي الذي طفا إلى السطح بعد سياق الربيع العربي. ومن جهة أخرى، الوقوف النقدي على بعض النماذج والرموز، خطاباً وممارسة.

تقاطعات بين الشيخين 

لا يمكن لمتتبّع الخطاب السلفي، وما صدر ويصدر عن بعض رموزه، أن يغفل عن نقدهم اللاذع، وتحاملهم المستمر، على الطرق والجماعات الصوفية، وفي ثناياه، على ما يسمونه الفكر الخرافي. يقدمون أنفسهم قوارب نجاة من حالة التيه والضلال العقدي والسلوكي الذي تود الصوفية قيادة المجتمع نحوه. وعلى أساس هذا الهجوم، و"الردات" الانفعالية، يتأسس معظم خطاب التيارات السلفية التي تعاني حالة من الشتات والفرقة، بحيث أصبحت طرائق قدداً، وحول كل شيخ يحلّق تيار وشبه تنظيم، وتجد الشنآن بين مكونات التيارات والرموز السلفية نفسها. حقيقة هذا الفكر أنه نما وترعرع في جو الاحتكاك اللفظي العنيف، وبين ثنايا الرفض المطلق للآخر المخالف، وحقيقة اتهاماتهم لمخالفيهم أنها مجانية، وكلام خطيب في جموع من الناس، لا أقل ولا أكثر، فهي لا تكتسب قوة نظرية.

وقد ساهم هذا الخطاب بنشر وعي ديني زائف، ولا يزال معششاً في عقول كثيرين، على الرغم من انكشاف القناع عنه، وفي مقدمة مخلفاته إذكاء الصراع الطائفي، والإسهام في الفرقة والتمزّق داخل النسيج الاجتماعي. إذ يرتكز على مهاجمة المخالف، ويهمل ذاته من النظر والتأمل، وتلك مفارقة تتأكد لما نقوم بمقارنة هذا النموذج، بشيخ الطريقة الذي يوجد على طرف نقيض مع شيخ السلفية، من حيث الظاهر، لكن من حيث المضمون والجوهر، يتضح أن الخلاف شكلي فقط، ويمكن أن ننظر لذلك عبر ثلاثة محاور:

1 ـ التمركز حول الذات وإضفاء نوع من القدسية على شخصه؛ بدلاً من الفكرة أو القيمة، فتجده من أشد الرافضين للاختلاف، والحاملين على المخالفين بأقسى العبارات والكلمات، وبعض المشايخ الذين تلبسوا قميص الحداثة، من دون روحها، وما هم إلا أبعد الناس عنها، من حيث المضمون والروح، فتحولوا بفعل آليات ووسائل صناعة النجومية إلى نجوم حقاً، ليسوا أقل اهتماماً بذواتهم من نجوم السينما، وليسوا أقل حباً للظهور منهم، ويكفي أن تقلب بصر العين في قناة من القنوات التي يظهرون باستمرار عليها، أو تلج موقعاً من مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بأحدهم، لترى ما تطفح به صفحات الشيوخ من عجائب وغرائب، وذلك كله باسم الدعوة، لكنك تجده يُنصّب نفسه معياراً ويروّج لكل حركاته وسكناته، ولا يخضع نفسه لمعيار، أو ينضبط لقيمة أو فكرة، فالأساس هو تمجيد الذات واستمرار حضوره الشخصي بين الأتباع والجمهور، الذي يتأثر بالإعلام أيما تأثر.

2 ـ العشق النهم للزعامة والخلود، وهذا ينجلي بفحص العلاقة مع الأتباع، وهي بطابعها علاقة عمودية، بتوجيهٍ من الأعلى إلى الأسفل. الشيخ دائماً المُرسِل، ولا يقبل أن يكون مستقبِلاً، وكذلك بنية التنظيم، وتشكيل الجماعة أو التيار. فالتنظيمات التي يكثر فيها النزوع نحو "التسلف"، هي أبعد ما تكون عن منطق الشورى والديمقراطية في الاختيار، وللشيخ فيها دور مركزي، مثلها مثل الجماعات الصوفية، أو تلك المرتبطة بزعيم، لا يحق لأحد، بمقتضى المشيخة وما تمثله في وجدان الأتباع التي تكون أقرب للأسطورة منها إلى الواقع، أن ينازع الشيخ في مكانة، أو حديث، أو مقام.

شيخ التنظيم السلفي وصِلته بالأتباع والمريدين تنويع على نسخة أخرى من شيخ الطريقة، في كثير من طرق تزعمه التنظيم، أو تقدمه تياراً، أو جموعاً من الأتباع. وطريقة انتظام أعضاء الجماعات السلفية ومنتسبيها، لا تختلف من حيث المضمون، مع الزوايا والجماعات الصوفية. فالشيخ هو الذي يفكر، وهو الذي يكتب، ويضع المنهج، وهو صاحب الكرامات، وعلى الكل أن يسبح في هذا الفلك الذي حدد معالمه شيخ الجماعة، من دون إمكانية الاجتهاد في تقديم البديل، أو التفكير خارج السرب، لأن ذلك يمثّل منازعة للشيخ وتمرداً عليه. ويمكن أن نأخذ مثالاً لذلك جماعة العدل والإحسان المغربية التي كان الشيخ في سيرها التنظيمي يشكل محوراً ومركزاً لا يمكن تجاوزه، وذلك خلّف عيوباً كبيرة، ظهرت للعيان عندما توفي، فبقيت الجماعة تعاني شبه جمود، من دون القدرة على تجاوز المنطق الذي كان قائماً مع الشيخ وأفكاره في الاشتغال والحركة. وإن شيخ الطريقة، ونسبة كبيرة من منتسبي الصوفية، تجد فيهم الكثير من أخلاق الحب والسماحة ورحابة الصدر، وهم يتفوقون بذلك على شيخ التنظيم السلفي، ومريديه، الذي قد تجده، أحياناً، يهب الناس الجنة أو النار. بل إن الجفاء سمة لصيقة بكثيرين منهم، وكذا الفظاظة، والخطاب العنيف والقول الغليظ. ويمكن أن نسجل بعض التراجع في هاته النماذج من الغلظة، عند بعض الرموز، وإن كانت تبقى سمة مميّزة للأتباع.

3 ـ الدوغمائية وعدم القبول بالرأي المخالف، وهي صفةٌ جامعة بين طرفي المقارنة، وكما للصوفي من تعنت وتشبث برأيه، فإن الشيخ السلفي كذلك يكون تصوره الدين مرتبط، بشكلٍ أساسي وجوهري، بالتصور العقدي الذي ينبغي أن يكون سالماً من كل شائبة، كونه منجاة من الضلال في الدنيا والآخرة. إذ تجد الكثير منهم يعشق الجدل والسفسطة، ويدخل في كلام لا طائل من ورائه، بحيث يتم التشبّث بالفروع، والتعلّق بأهداب الجزئيات، فتضيع كليات ومقاصد كبرى للحديث، وكل ذلك بسبب العمى والشرود المنهجي والمعرفي الذي يعاني منه هذا النموذج.

الشيخ السلفي، شأن شيخ الطريقة الصوفية، يعطل إمكانية النقد والانفتاح على الرأي المخالف، ويتمترس بجمود ضمن أنموذج قائم، يتصور فيه سمات الكمال، وأي نقد خارج عن ذلك النموذج يبقى مرفوضاً ولا يمكن التسليم به. وقد شغل كثيرون منهم التفكير في المسواك والطيب والملبس الجيد والمرأة الحسناء، مع الإكثار من الزواج والطلاق، وكأن الدين الحنيف ليس فيه من التوجيهات إلا في هذا المنوال.

نماذج عربية متباينة

وعت رموز في تيارات السلفية، في مشارق الأرض ومغاربها، مخاطر طريقتهم المعتمدة في التفكير، ووقفوا عند منزلقاتهم المنهجية والفكرية، حينما تسنى لهم الاطلاع على اجتهادات المعاصرين، ومجموعة من الكتابات التي تنتمي إلى جيل النهضة المعاصر، وكذا إلى حركات إسلامية تفتّق ذهنها على بعض أسئلة جيل النهضة والإصلاح، وكان الفكر الوسطي المعتدل أحد تلك الركائز التي قامت عليها هذه الحركات. ورغماً عن ذلك، فإن الانتقال من نمط في التفكير دوغمائي مغلق، إلى الفكر الوسطي المعتدل، إنما يحتاج نوعاً من الصيرورة والنقد المستمر، والقدرة على اجتراح السؤال، ومعه خوض تجربة النقد الذاتي، وهو أمر لا يحصل بين عشية وضحاها، بل يتطلّب وقتاً حتى تختمر أطروحات وأفكار لتنقل الفرد، شيخ التنظيم السلفي، من منهجٍ في التحليل وطريقة في النظر، يتسمان بالضيق، إلى منهج أكثر رحابة ووسعاً، حيث يكون رحيماً بصاحبه. وقد تجلى ذلك بقوة في مراجعاتٍ قامت في ليبيا، على أعين علماء، في مقدمتهم سلمان بن فهد العودة. وكذا في مصر، في الحقب الماضية، التي تحوّل فيها طيف عريض من تكفير المجتمع والدولة إلى أنموذج يحتذى به في الفهم السليم للدين، ومعه خيار المدافعة السلمي ضد كل أشكال الظلم والتسلط الاجتماعي والسياسي.

مجلس صوفي في فاس (إبريل/نيسان/2007/أ.ف.ب)

تجلّت المخرجات الإيجابية لهذا الخيار في الحراك الثوري في مصر، وجاءت الممارسة السياسية، والتدافع الاجتماعي، ليتسمان بنبلٍ كثير بعد ثورة 25 يناير، وخلالها، وخصوصاً بعد الانقلاب العسكري. حيث جسّد الانقلاب، وتبعاته، من قتل وتدمير وسحل وسجن، اختباراً حقيقياً لإمكانية عودة أبناء هذا التيار العريض إلى المواجهة العنيفة كرد فعل، لكن ذلك لم يحصل، على الرغم من محاولات الاستدراج المستمرة. وما حدث، ولم يكن متوقعاً، هو انتكاسة سلفيي حزب النور الذين قدموا إلى السياسة من القنوات الدينية، والجمعيات التي كان يرعاها نظام حسني مبارك، إلى جانب أطراف خليجية، ويوفر لها الحضن لتشكل له التوازن في وجه جماعة الإخوان المسلمين، وهو تنظيم طالما شكل خصماً لمبارك، يجب مواجهته بمرجعية قريبة من مرجعيته الفكرية، وفقاً لفهم النظام.
انتشرت ظاهرة الدعاة الجدد، ووعاظ الفضائيات، الذين سمح لهم بالاشتغال على تأطير الجمهور، من دون الاقتراب من شؤون السياسة والحكم، وتدبير الشأن العام، وهي عندهم تدخل في باب طاعة ولي الأمر. لذلك، كان مستساغاً بعد الانقلاب أن يركب بعض الشيوخ في الدبابة إلى جانب العسكري. ولم تكن الشرعية الديمقراطية تعني شيئاً لهؤلاء المشايخ، حتى يتم الدفاع عنها. وطاعة ولي الأمر واجبة لديهم، ولا يجوز الخروج على الإمام المتغلّب. جرى ذلك طبعاً باتفاق مع الحاضن الأكبر للسلفية، أي المملكة العربية السعودية، التي تحتضن تيارات كثيرة من هذا النمط الذي يمتح من الموروث السلطاني التقليدي لإدامة الاستبداد.


بينما تشكل حالة السلفية في تونس الوجه الآخر لسلفية مصر التي كانت متصالحة مع الاستبداد، في الحقبة التي كانت القوى الديمقراطية تتعرض لأبشع تنكيل وأذى فيها. وإلى جانب النفي والمحاكمات والسجون، اختار مستبد تونس المخلوع، زين العابدين بن علي، نهج خيار تجفيف ينابيع التديُّن، وممارسة كل أشكال المواجهة للخيار الإسلامي الوسطي المعتدل، الذي كانت تتقدمه حركة النهضة، والتي تشكل بؤرة العقل الإسلامي المستنير، وكانت مطالبة في البداية مرتكزة حول المقولة الشهيرة "الحرية قبل الشريعة"، وكانت الحرية تعني إنهاء مرحلة الاستبداد والديكتاتورية، من خلال وفاق وطني بين القوى الأساسية في الشعب. في ذلك الوقت، لم يسمع للسلفيين صوت ضد القمع الممنهج الذي مارسه الاستبداد التونسي في حق المعارضين. بل اختاروا الظهور بشكل لافت بعد الثورة، حاملين شعارات متعلقة بتطبيق الشريعة، مع الدخول في مواجهة عنيفة مع الجميع، مجتمعاً، ومؤسسات مدنية، ودولة تعرف مخاضاً وولادة ثانية، بعد نجاح الثورة، ومعه المسار التوافقي، بل تم اللجوء للعنف والتحريض، وهو ما يشكل تهديداً للسلم الاجتماعي، ويضر بالثورة، ويتقاطع مع مصالح القوى المناهضة للديمقراطية. وحقيقة الأمر إن مثل هذه التنظيمات التي برزت بعد الثورة في تونس وغيرها من بلدان الربيع العربي، تبقى هويتها وغاياتها غير واضحة، وتحتاج مزيداً من التدقيق. ويؤكد ذلك الأمر ما نراه من سقوط هؤلاء في أجنداتٍ معاديةٍ لروح الربيع العربي، فيتم توظيفهم لضرب الديمقراطيات الناشئة، بوعي منهم أو بغير وعي.
إضاءة مغربية

أما سلفيو المغرب، فهم بين المراجعات غير المكتملة، واستدراجات المخزن، حيث لم يكن حديث المراجعات مقتصراً على مصر وليبيا. ففي المغرب كذلك كثر الحديث عن مراجعات تمت داخل السجن، وشكلت وثيقة "أنصفونا" بداية لمثل هذا المسار من النقد الذاتي، بين شيوخ التيار السلفي الذين تعرضوا للاعتقال، في سياق موجة الحرب على الإرهاب التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول. ولكن، لم يكتب لحديث المراجعات الاستمرارية بشكل علمي ومؤسس، حيث تحتاج المراجعات رسوخاً في النظر العلمي، إلى جانب عامل الوقت، من أجل الإنضاج الهادئ، ما يجعل مخرجات هذا العمل النقدي سليمة، وتكون نتائجه ذات نفع وبركات، وتحظى بقبول المهتمين والمتتبعين. لكن ذلك كله لم يتم بسبب الاختلاف الشديد بين شيوخ السلفية ورموزها، حتى بلغ الأمر حد اتهام بعضهم بعضاً بالمساومة على الملف، ومحاولة دفن قضية باقي المعتقلين. وظهر ذلك جلياً في الخلاف العلني بين الشيوخ والجبهة الوطنية للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين. ويمكن إضافة الرغبة في تأسيس حزب سياسي لدى الشيخ محمد الفيزازي، ورفض محمد عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص)، فكرة الحزب السياسي.
وقد عقدت ندوة في مدينة فاس، حضرها الفيزازي وأبو حفص، عنوانها "الإسلام والسياسة"، وهو عنوان يعود إلى بداية القرن العشرين، ويرتبط بالحركة الإصلاحية، ونوقش في المغرب منتصف القرن العشرين مع علال الفاسي وغيره، ما يعني أنه سؤال متجاوز، لكن العقل السلفي لم يتجاوزه بعد، ولا يزال يفكر في الممارسة السياسية من داخل الإسلام، وهو منخرط في الحقل الحزبي، وقد يلج أي انتخابات قريبة متى أعلن عنها، فكيف به إذا وجد نفسه منخرطاً في التدبير، وهو لم يحسم بعد إشكالات نظرية، لا زالت تتأرجح، ولم يكتمل نضجها لعوامل عديدة. ما يعني أن المشاركة السياسية هي فقط لحظة غنم سياسي، وليست من ضرورات المرحلة، ولا من متطلبات الواقع، أو صيرورة طبيعية لمنظور شامل في التغيير، تعد المشاركة السياسية أحد جوانبه؛ فالمسألة السياسية لا زالت عندهم تحتاج نظراً وتقليباً، في الوقت الذي نجد فيه الفكر السياسي الإسلامي يؤسس مسارات اجتهادية جديدة، في ما له صلة بالحريات وحقوق الإنسان.

وإذا ما أردنا أن نضع ملمحاً لمستقبل مشايخ السلفيين في المغرب، فإن المسار الذي يحاول أن يشقه الفيزازي، في علاقته بالقصر والأوقاف، التي بات يتمنى أن يكون ضمن مندوبيها، يدفع به إلى الاشتغال من داخل جمعيةٍ ما على الشأن الديني، من منطق الدعوة والتدافع في مجالات الهوية والقيم والأخلاق، لتكون دعامة للحزب السياسي، النهضة والفضيلة، الذي تتصدره رموز سلفية، منهم محمد عبد الوهاب رفيقي. وعلى المدى البعيد، يمكن أن تشكل هذه التجربة، المستوحاة من حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، توازناً في الحقل السياسي بين الأحزاب ذات المرجعية الدينية، ولا سيما أن أطرافاً عديدة حاولت التركيز أخيراً على الظاهرة السلفية، ولا ريب أن هذه الأطراف قد تدفع بها لتكون بديلاً، ما دامت علاقتها مع النُظُم السلطوية لا تشكل حرجاً، وقد رأينا ما وقع في مصر، ونموذج الخطاب الذي يروجه الشيخ محمد الفيزازي في المغرب، حيث طلب علناً، عبر صفحته في "فيسبوك"، الخطبة أمام الملك. وهي هنا خطبة ذات مغزى وبعد سياسي، ولم تكن في المنحى الشعائري، كما هو معهود في نموذج الخطب الذي تسعى الأوقاف إلى تثبيتها وترسيخها أنموذجاً ومثالاً للخطاب الديني، وانمحت كل سنوات السجن، وفي مقابلها نضال هيئات كثيرة ومساندتها قضيتهم، ليتحول ملك البلاد الواهب للحرية، من دون أن يذكر الفيزازي للرأي العام عن سجانه شيئاً.

ختاماً
الظاهرة السلفية في الوطن العربي من أكثر الظواهر تعقيداً، ليس من حيث الخطاب أو المنهج وحسب، ولكن، لحالة التعدد التي هي أقرب إلى الشتات، ما يعني عدم القدرة على التصنيف والفرز. حيث نجد خلف كل شخص تياراً ثاوياً، وداخله تجد تناقضات بالجملة، والإيجابي أن تيارات كثيرة، والرموز التي تمثلها، دخلت في سلسلة من المراجعات والنقد الذاتي، قد يكون مفيداً على المدى البعيد إن تمت مراعاتها. ومن قدر الجميع أن يدخل في عالم التحولات التي تؤسس لها الحداثة، في سيرورة من النقد والنقد المضاد المفضي إلى التطور، وذلك فيه غنى وتنوعاً يثري المجتمع والفاعلين فيه. لكن بعض الأفكار تحتاج وقتاً ليس باليسير، بغية التحوّل، وترهبك في انتقالاتها السريعة وغير المقنعة، وذلك يعود إلى ظروف النشأة وسياقاتها، والمراحل التي عبرتها، والتي تحتاج وقتاً كافياً بغية التحول والانتقال الآمن من وضع إلى آخر، وكذا إلى عمق في البناء المعرفي والمنهجي الذي يقي هذه التيارات شر المنزلقات ومحاذير الواقع، ولنا العبرة في المغرب في السلفية الوطنية، التي انبعثت من حلقات الدرس والعلم، وفي اشتباك مع المستعمر بفكره وأداته العسكرية، فكانت سلفية مستنيرة، لأنها كانت عالمة مدركة، حق الإدراك، الأسس المرجعية التي تؤسس عليها خطابها، ولطبيعة الخصم والمعركة حينذاك.