السودان .. أبو عيسى ومدني في السجن

26 فبراير 2015

أمين مكي مدني وفاروق أبو عيسى

+ الخط -

قد لا يكون المنظر مقبولاً ومعتاداً عليه في بلاد كثيرة، لكنه مجرد سيناريو متكرر في بلاد أخرى، تتشابه ظروفها في العالم العربي وإفريقيا وآسيا، إذ يمثل شيخان كبيران أمام محكمة سودانية، بتهم متعددة، يكفي أي منها للوصول إلى مشنقة الإعدام، مثل التآمر على أمن الدولة والإرهاب وتقويض النظام الدستوري والتنسيق مع حركات مسلحة لإسقاط النظام، على الرغم من أن تاريخ الرجلين لا يشهد لهما بغير النضال المدني السلمي الديمقراطي.

يقف فاروق أبو عيسى (82 عاماً) الوزير السابق والمحامي ورئيس تحالف قوى الإجماع الوطني المعارض، والدكتور أمين مكي مدني (76عاماً)، وهو أيضا وزير سابق وقاض وأستاذ جامعي ومحام مرموق ورئيس كونفيدرالية منظمات المجتمع المدني السودانية، أمام محكمة خاصة، برئاسة القاضي معتصم تاج السر، ليواجها قائمة تهم وجهتها له نيابة أمن الدولة. وكانت السلطات قد اعتقلت مدني وأبو عيسى يوم السادس من ديسمبر/كانون أول الماضي، بعد عودتهما من أديس أبابا، وتوقيع وثيقة "نداء السودان" بين مختلف قوى المعارضة السودانية في الداخل والخارج. وظل الرجلان معتقلين لدى جهاز الأمن الوطني، ثم تم تحويلهما إلى الشرطة، وفتح بلاغات ضدهما، ثم تولت نيابة أمن الدولة التحقيق الذي رأت هيئة الدفاع أنه كان مجرد محاولة لتطويل احتجاز الرجلين، من دون مسوغ قانوني. وقد تدهورت الحالة الصحية لهما، ونقلا إلى المستشفى، ثم عاد الدكتور أمين مكي مدني إلى السجن، فيما لا يزال أبو عيسى محتجزا في مستشفى الشرطة. ويرفض الاثنان التماسات تقدم باسميهما إلى الرئاسة لإطلاق سراحهما لظروفهما الصحية، وآخرها من اتحاد المحامين السودانيين الموالي للسلطة.

وفي مؤتمر صحافي مشهود، قال رئيس هيئة الدفاع، المحامي المخضرم عمر عبد العاطي، أن النيابة قررت تمديد حبس المتهمين، وتأجيل النظر في توجيه التهم إليهما، حتى يتم مضاهاة الخطوط على الوثيقة، للتأكد من توقيعهما عليها، على الرغم من أنهما أقرا بصحة التوقيع، ودافعا عن موقفهما. واستمرت المحاولات وعمليات التطويل أسابيع، حتى تم توجيه التهم إليهما في الأسبوع الماضي، وتقرر بدء المحاكمة الأسبوع الجاري.

وتراهن هيئة الدفاع على خط دفاع قانوني وسياسي، يقوم على أن وثيقة نداء السودان التي وقعها الرجلان لا تتضمن أيا من التهم الموجهة لهما، ولا تتبنى العمل المسلح. بل تنص، صراحة، في الديباجة على "العمل من أجل تفكيك نظام دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن والمواطنة المتساوية، عبر النضال الجماهيري اليومي، وصولاً إلى الانتفاضة الشعبية". وتمضي الوثيقة في ترتيب أولوياتها في نقاطها الأولى التي تنص على "أولوية إنهاء الحروب والنزاعات وبناء السلام على أساس عادل وشامل، والالتزام بالحل الشامل، والاتفاق على الترتيبات الأمنية النهائية، ثم إيلاء الأزمات الإنسانية الأولوية القصوى". وتدعو الوثيقة إلى تكوين حكومة انتقالية، وعقد مؤتمر دستوري، ووضع دستور دائم للبلاد، بمشاركة حزب المؤتمر الوطني الحاكم.

تشكل هذه النقاط برنامجاً مشتركاً لم يكن غائباً عن الساحة السياسية، تركز عليه المعارضة المدنية كل يوم، وتطرحه برنامجاً سياسياً لعملها. وتمضي أكثر من ذلك لتقول إن هذه النقاط وردت، بشكل أو بآخر، في وثيقة إعلان أديس أبابا الذي وقعته أحزاب الحوار الوطني، ومنها المؤتمر الوطني الحاكم، مع المجموعات المسلحة نفسها، وفي المدينة نفسها، بحضور لجنة الوساطة الإفريقية، بقيادة رئيس جنوب إفريقيا السابق، ثابو امبيكي.

لكنّ الحكومة تردّ على ذلك بالقول إنها مفوضة شرعا وقانونا للتفاوض مع حاملي السلاح، بينما تصف ما تقوم به أحزاب المعارضة بأنه تحالف مع حاملي السلاح، قبل أن يلقوا سلاحهم، وهذا يوقعها تحت طائلة القانون. وما يزيد الأمر تعقيداً، ويجعل من اعتقال الرجلين ومحاكمتهما قضية تسترعي انتباه العالم ومتابعته، هو الوزن السياسي والحقوقي لهما، بما يجعلهما رمزين كبيرين في العالمين، العربي والإفريقي، بل وفي العالم كله، بالإضافة إلى سجل مشهود لهما في مقاومة الأنظمة العسكرية في السودان.

فاروق أبو عيسى، المولود عام 1933، سليل أسرة كبيرة ذات رصيد كبير في العمل الوطني، ودخل والده مصطفى عمر أبو عيسى معتقلات الاستعمار البريطاني، لمساهمته في حركة النضال الوطني. التحق، وهو طالب في الثانوي، بحركة الطلبة الشيوعيين، ثم التحق بجامعة الإسكندرية، ودرس فيها الحقوق. واعتقل في مصر لنشاطه السياسي، وكان من المتطوعين السودانيين في أثناء حرب السويس. عاد، بعد التخرج، إلى السودان، وانخرط في النشاط السياسي والنقابي، واعتقل أكثر من مرة في فترة حكم الجنرال إبراهيم عبود (1958-1964)، وكان من قادة ثورة أكتوبر الشعبية التي أطاحت ذلك النظام. عمل وزيراً في بداية حكم الرئيس جعفر نميري (1969-1985)، وكان من ضمن المنشقين من الحزب الشيوعي، بسبب الاختلاف حول الموقف من نظام نميري، لكنه سرعان ما استقال، وابتعد عن الحكم بعد مذابح النظام بقيادات الحزب الشيوعي. تولى الأمانة العامة لاتحاد المحامين العرب عشرين عاماً (1983-2003)، وشهدت تلك الفترة نقلة نوعية في عمل الاتحاد، وكان من مؤسسي التجمع المعارض لنظام الإنقاذ بقيادة المشير عمر البشير منذ يومه الأول في عام 1989، وظل عضواً في هيئة قيادة التجمع، وناطقاً رسميا باسمها، ولم يعد إلى السودان إلا بعد توقيع اتفاق السلام الشامل عام 2005. وعين نائبا في البرلمان الانتقالي ممثلا للتجمع، ثم شغل رئاسة تجمع قوى الإجماع الوطني الذي ضم كل أطراف المعارضة السودانية، ولا يزال.

أما الدكتور أمين مكي مدني المولود عام 1939، فدرس القانون في جامعة الخرطوم، ثم تلقى دراساته العليا في جامعتي لندن وأدنبرة، وعاد ليعمل أستاذا في جامعة الخرطوم، ثم قاضياً ومحامياً. واكتسب خبرة دولية كبيرة من خلال عمله في البنك الدولي، ثم في بعثات الأمم المتحدة للاجئين ومفوضية حقوق الإنسان في كمبوديا وكرواتيا ولبنان والعراق وغزة. عمل وزيراً في الحكومة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام جعفر نميري (1985-1986). وله نشاط حقوقي بارز، حيث يعتبر من الخبراء العالميين لحقوق الإنسان، وهو من مؤسسي المنظمتين السودانية والعربية لحقوق الإنسان، وتولى رئاستهما. لم ينتم سياسياً لحزب بعينه، لكنه ظل، باستمرار، في قلب معارك الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في السودان والعالم العربي، وشارك في إعداد عشرات التقارير عن أوضاع حقوق الإنسان، وله عدد كبير من المؤلفات والمقالات في هذا المجال.

ربما تخشى الحكومة السودانية من أن تتحول محاكمة فاروق أبو عيسى وأمين مكي مدني محاكمة سياسية لها، وهو ما تحسبت له، حين اعتقالها رئيس حزب الأمة، الصادق المهدي، ورئيس حزب المؤتمر السوداني، إبراهيم الشيخ، في العام الماضي، فأطلقت سراحهما بعفو رئاسي قبل بدء محاكمتهما، وقد تطلق سراح أبو عيسى ومدني في أي لحظة، إلا أن هيئة الدفاع تقول إنها لا تراهن على ذلك، وإنها تكمل جاهزيتها، وتعد عدتها للدفاع عنهما بكل ما تستطيع، عبر القانون وحده.

دلالات
E69D475A-C646-467F-AF79-E645475CAAF5
فيصل محمد صالح

كاتب وصحفي سوداني، ومحاضر جامعي. يعمل مديرا لمركز طيبة برس للخدمات الإعلامية، وكانب عمود يومي في صحيفة الخرطوم. حاصل على الماجستير من جامعة كارديف. تولى رئاسة تحرير صحيفة الأضواء. حاصل على جائزة بيتر ماكلر الأميركية للنزاهة والشجاعة الصحفية.