2024... سنة الهولوكوست الفلسطيني
ستبقى سنة 2024 محفورة في ذاكرة الإنسانية، ليس لأنها فقط شهدت واحدة من أكثر حروب الإبادة والتطهير العرقي وحشيةً في العصر الحديث، بل أيضاً لأن فصولها المُرّوعة جرت (ولا تزال) على الهواء مباشرةً، على مرأى ومسمعٍ من العالم، من دون أن يشكّل ذلك أدنى مشكلة أخلاقية بالنسبة للغرب.
انصرمت سنة من القتل والإبادة والتهجير والتدمير، في ظلّ توافق مكشوف بين دولة الاحتلال والقوى الإقليمية والدولية على مواصلة الحرب، وكأن الأعداد المهولة من الشهداء والجرحى والمشرّدين، وحالة الدمار الهائل التي بات عليها قطاع غزّة... كأنّ ذلك كلّه ليس كافياً لوقف المقتلة المفتوحة. حتى الرأي العام العالمي الذي أبدى في الشهور الأولى للحرب حيويةً لافتةً، بدا الآن وكأنه استسلم للأمر الواقع بعدما أخفق في دفع مراكز القرار الدولي المؤثّرة للضغط على دولة الاحتلال كي توقف حربها على المدنيين العزّل، هذا على الرغم من إصدار القضاء الدولي مذكّرتَي اعتقال بحقّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير أمنه السابق يوآف غالانت. إنه الأمر الواقع الذي تعمل إسرائيل على فرضه في القطاع تنفيذاً لمخطّطات اليمين الصهيوني المتطرّف.
ليست الجرائم الوحشية التي ارتكبتها دولة الاحتلال مُجرَّد أرقام تحيل على أعداد الضحايا، بقدر ما هي أيضاً عشرات الآلاف من القصص المأساوية التي باتت تشكّل (بحكم الواقع) تاريخاً موازياً لمحرقة غزّة؛ أسرٌ وعائلاتٌ أُبيدت بكاملها ومُحيت من السجلّات المدنية، وأخرى تشتّت شملها نتيجة النزوح المتواصل بين مناطق القطاع، مئات الرضّع والأطفال قضوا بسبب البرد والجوع وسوء التغذية، مئات الأطباء والمسعفين والكوادر الصحّية قتلهم جيش الاحتلال بدم بارد، هذا ناهيك عن الصحافيين والنشطاء، وكلّ من سوّلت له نفسه توثيق فظائع الاحتلال، كلّهم لم يسلموا من الهمجية الإسرائيلية. أمّا على صعيد البنية التحتية، فقد دمّر القصف الإسرائيلي معظم البيوت والمرافق والمنشآت العامّة، من مدارس ومستشفيات ومصانع ومساجد وطرقٍ وغيرها، وغيّر المعالم العمرانية في القطاع، في استهداف مقصود لذاكرة المكان.
واصلت دولة الاحتلال جرائمها من دون اكتراث لمساعي التهدئة ووقف إطلاق النار، في ضرب سافر لأبسط ما ينهض عليه "القانون الدولي الإنساني" من مبادئَ وقواعدَ، وكأنّها أدركت أن هناك ضوءاً أخضرَ غربياً لمواصلة جرائمها بحقّ الشعب الفلسطيني، مستثمرةً في ذلك حالة الذلّ العربي (الرسمي والشعبي) غير المسبوق.
سيذكر التاريخ أن الدول والحكومات والمنظّمات التابعة للأمم المتحدة ومنظّمات المجتمع المدني والشعوب فشلت في وقف الإبادة والتطهير العرقي في غزّة، في سقوط مُدوٍّ لخطاب التقدّم والحداثة والعولمة، الذي روّجته الولايات المتحدة، والغرب، مع بداية الألفية الجديدة. لقد كشفت حرب غزّة التناقضات البنيوية العميقة للحداثة الغربية، وفضحت ازدواجية معاييرها في التعاطي مع ما يستجدّ في العالم من قضايا. وفيما كان يُنتظر أن يدفع هذا الخطاب إلى إقامة نظام دولي أقلّ ظلماً (حتى لا نقول أكثر عدلاً)، فسحت الدولُ الغربية الكُبرى المجال أمام دولة الاحتلال لتقوم بأكبر إبادة جماعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كانت سنة 2024 سنة الهولوكوست الفلسطيني بمباركة أميركية وغربية، وتواطؤ عربي مكشوف، في انهيار أخلاقي وسياسي، انهيار ستكون له تداعيات في المدى البعيد، فالعارُ سيلاحق كلّ الذين صمتوا على إبادة أكثر من 45 ألف فلسطيني (إلى كتابة هذه السطور). واهِمٌ من يظن أن تجاهل الأخبار المروّعة القادمة من غزّة سيعفيه من المسؤولية الأخلاقية، فلا يزال "الهولوكوست اليهودي'' وصمة عار تلاحق الضمير الغربي، على الرغم من انصرام عقودٍ طويلة على وقوعه. وواهمٌ أيضاً من يظنّ أن ما جرى (ولا يزال) في غزّة سينتهي هناك، لن يتوقّف المشروع الصهيوني عن التمدّد حتى يُعيد اليمين الصهيوني المتطرّف رسمَ خريطة الشرق الأوسط وفق الاستراتيجية الإسرائيلية، وذلك بتصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد، تمهيداً لتحقيق حلم ''إسرائيل الكُبرى''، من خلال وضع مخطّطاتٍ محكمةٍ للتمدّد باتجاه الأردن ولبنان وسورية ومصر، بشكلٍ يمكّنها من تفتيت المنطقة والهيمنة على مقدراتها.