2023 سؤال مواجهة التطبيع

05 يناير 2023
+ الخط -

ودّعنا سنة 2022 عربياً كما ودّعنا السنوات التي قبلها. والتنصيص على مفردة "عربي" مقصود، ذلك أننا عندما نودِّع السنوات بمعيار حياتنا الشخصية، نودّع جزءاً من عمرنا بألوانه الوجدانية المختلفة، نودعه بالانشراح والحزن، وبكل ما حملته أيامه من مسرّات ومخاوف. أما انفراط سنة من عقد الزمن العربي، وفي سياق ما يجري اليوم أمامنا في أغلب البلدان العربية، فإنه يدعونا إلى النظر إلى أحوالنا العامّة بلغة السياسة والتاريخ، والنظر أيضاً، إلى الأدوار المنتظرة من الزمن وسنواته، في رسم التحوّلات والآفاق التي نتجه نحوها. ولأننا نؤمن بأن للزمن أفعالا وأدوارا، وهو يمتلك، في الآن نفسه، القدرة على توجيه بعض الأحداث أو تركيب بدائل لها .. إنه مختبر كبير لترجمة الخيارات والإرادات السياسية، حيث تحصل في سياقاته المختلفة أحداثٌ وتختفي أخرى .. وضمن هذا الأفق، نحتضن الأيام الأولى من السنة الجديدة، وتُعلن أنها تُشكِّل سنة أمل نتطلّع إلى تحويلها إلى سنةٍ في مواجهة وقائع التطبيع وصوره التي منحت إسرائيل أدواتٍ لمواصلة تصفية المشروع الوطني الفلسطيني..

أتذكّر أن مثقفين وساسة عرباً كثيرين واصلوا احتضانهم المشروع الوطني التحرّري الفلسطيني، وأن مؤسّسات المجتمع العربي المشترك ساهمت، بدورها، في المحافظة على احتضان مشروع المقاومة .. إلّا أن ذلك كله لم يُنْتِج خلال العقود الأخيرة التي توالت سوى مزيد من الانكماش العربي في مقابل مزيد من الاندفاع الإسرائيلي. وإن ترتيبات ما أصبحت تُعْرف بمؤتمرات السلام أغلقت الباب على الفلسطينيين، وقد تضاربت أوضاعهم، واشتبكوا في مواجهة مواقف وخيارات، من دون قُدرةٍ على بناء ما يُسعف بإيجاد الحلول المناسبة لقضيتهم، وقد أصبحت تُعَدُّ اليوم من بقايا الزمن الاستعماري.

لكن هل يكفي أن نواصل مواجهة التطبيع وتبعاته، بالتذكير بالمواقف السياسية المبدئية والعامة، في الوقت الذي تمارس فيه إسرائيل مزيداً من الحضور والتغلغل، في قلب مجتمعاتٍ عربية كثيرة؟ أتساءل بحكم أن ما يحصل في البلدان العربية المطبِّعة يدفعنا إلى القول إننا جميعاً ننخرط في منح الكيان الصهيوني، ما يسمح له بمزيدٍ من الاستيطان، ومزيد من محاصرة غزّة، ومزيد من نشر قواعد دولته الدينية على كامل التراب الفلسطيني.

لم يستطع أحدٌ وقف إجراءات التطبيع، ولا وقف التمدُّد الذي تواصل به إسرائيل توسيع مستويات حضورها، داخل تظاهرات اقتصادية وعسكرية وتقنية عديدة

بالأمس القريب، طَبَّعت الدولة العربية التي انخرطت في حروبٍ مع إسرائيل، طَبَّعت مصر والأردن، وظل التّطبيع مرفوضاً من تنظيمات سياسية ومدنية عديدة. كما انخرطت قيادة منظمة التحرير في مسلسل السلام المتوّج باتفاقية أوسلو، التي تُعَدّ خير شاهدٍ على عدوانية الدولة الصهيونية وجرائمها في الأرض المحتلة.. كما تُعَدّ الدليل الأكبر على السلام المستحيل مع دولة الاحتلال. ويأتي في سياق ما ذكرنا التطبيع الذي تَمّ تنسيق خطواته بين المطبّعين الجدد، الذين مارسوا التّطبيع السرّي سنواتٍ قبل رفع رايته العلنية بعد جملة من الاتفاقيات التي فتحت أبواب الجغرافيا والتاريخ العربيين، أمام الصهيونية العالمية.

حصل ذلك تحت ضغط الهزائم والخيانات المتواصلة، وتحت ضغط حساباتٍ سياسيةٍ كثيرٌ منها غير مُعلن، وكثيرٌ منها أيضاً بدأ العمل بتنفيذ إجراءاته قبل حُصول المعاهدات التي رتَّبت بنوده، حيث لم تعد المواقف السياسية الشعبية الرافضة للتطبيع وتبعاته تقنع أحداً بجدواها وفاعليتها، أمام مشاهد التطبيع التي أصبحت جرعةً إعلاميةً يوميةً في المشهد الإعلامي العربي، ولم يعد لها الوَقْعُ السياسي الذي كان قبل سنوات .. لكن ما العمل؟ كيف نواجه جحيم آليات التطبيع المتلاحقة والمُرَتَّبة بعناية؟ كيف نواجه صور تعميم التطبيع المنتظرة؟ وكيف نواجه الأدوار التي ترسمها موجة التطبيع الجديدة، وهي تساهم بكل ما تُوَلِّدُه من تراكمات في صناعة جملةٍ من التحوّلات في الوعي القائم اليوم، بالمشروع الوطني الفلسطيني؟

لنعلن سنة 2023 مناسبة لبناء مشروع في مقاومة مختلف أشكال التطبيع، لعلنا نحاصر المواقف المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني

نجح المُطبِّعون في إعلان القضية الفلسطينية قضيةً مركزية في مؤتمر القمّة، كما نجحوا قبل ذلك في عقد معاهدات تطبيعٍ مع إسرائيل. ولم يستطع أحدٌ وقف إجراءات التطبيع، ولا وقف التمدُّد الذي تواصل به إسرائيل توسيع مستويات حضورها، داخل تظاهرات اقتصادية وعسكرية وتقنية عديدة، في بلدان عربية عديدة، فكيف نواجه ما يجري أمامنا؟ كيف نواجه قمّة عربية تسكت على مآلات الأوضاع العربية في ليبيا وسورية والعراق واليمن؟ وكيف نواجه قمّة لا تفكر في الاختراقات الصهيونية الجديدة للخليج والمشرق والمغرب؟ كيف نواجه إعلاناً للقمّة يسكت عن كل ما ذكرنا، ويسطّر كلاماً مناقضاً لمختلف أفعال التراجع التي تملأ الواقع العربي!

في ضوء ما سبق، أتصوَّر أنه يجب أن نستعدّ لتحويل أشهر السنة الجديدة إلى مناسبة للتفكير، في كيفيات التخلص من كل ما رَتَّب ويُرتِّب المنخرطون في التطبيع من قواعد وإجراءات، تُمَكِّنُ إسرائيل ومن يقف وراء مشاريعها الاستيطانية من مزيدٍ من احتلال الأرض، وتزوير التاريخ والتحوّل، شيئاً فشيئاً، إلى قلعة عسكرية ضاربة داخل المحيط العربي.

لنعلن سنة 2023 مناسبة لبناء مشروع في مقاومة مختلف أشكال التطبيع، لعلنا نتمكّن من محاصرة المواقف المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ودولته، مقاومةٍ قادرة على إعادة بناء خيارات التحرير الفلسطينية، وملاءمتها مع المستجدَّات المتمثلة في التراجعات والخيانات والانقسامات والأخطاء التي حصلت. ولا نعتقد لا بصعوبة ولا باستحالة هذا الذي يتطلع إليه الأحرار في العالم. وذلك لأننا نؤمن بأن كل الضربات التي لَحِقَت القضية الفلسطينية منذ عقود لن تُوقِف تطلُّع الأحرار في العالم إلى ضرورة مواصلة مقاومة الاستعمار والاستيطان والضَّم، مواصلة الانتفاض ضدّ مختلف صور الغطرسة والعدوان الإسرائيليين، ففي تجارب تاريخ التحرُّر في العالم محطّات تراجعٍ لا ينبغي اعتبارها بداية النهاية، بل يجب النظر إليها مناسبةً لإطلاق صيحةٍ تُخَلْخِل قَنَاعات المتربّصين من الصهاينة، المحتلين أرض فلسطين وتاريخها ورموزها، صيحة مدوّية بصمتها ونظامها، وبكل ما يمكن أن تصنعه من تحوّلات مُنتظَرة في التاريخ. ولتكُن البداية اليوم بمواجهة الأحوال العربية والأحوال الفلسطينية، وذلك لوقف مسلسل التطبيع الذي يساهم اليوم في منح الصهاينة ما كانوا يحلمون به .. ولتكُن سنة 2023 مناسبةً لبداية مواجهة التطبيع وآلياته، كما يجري تنفيذها في مجتمعات عربية كثيرة.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".