هل من آفاق لوعود الكاظمي في العراق؟

21 ابريل 2020
+ الخط -
بات التباين الأميركي - الإيراني في الموضوع العراقي واضحاً صريحاً، ولم يعد كما كان في السابق مقتصراً على اجتماعات الغرف المغلقة والتسويات؛ أو بكلام أدق، الصفقات التي كانت تتم سابقاً بقصد تسهيل تفاهماتٍ أخرى بين الجانبين، في أماكن خارج العراق، مثل سورية ولبنان وأفغانستان، والملف النووي؛ وحتى بالنسبة للموضوع الفلسطيني. وقد رسخت إدارة أوباما هذا التوجه الأميركي الذي مكّن إيران من التمدّد في دول عديدة في المنطقة. ولكن الوضعية اختلفت بصورة لافتة، في عهد إدارة ترامب الذي جاء إلى البيت الأبيض بوعد قاطع، أنه سيُبطل العمل بالاتفاق النووي مع إيران، الذي اعتبره الرئيس السابق، أوباما، إنجازه شبه الوحيد على صعيد السياسة الخارجية. وكان واضحا في حينه أن إلغاء الولايات المتحدة الاتفاق سيؤدّي، بطبيعة الحال، إلى ارتفاع وتيرة الخلافات والمصادمات غير المباشرة، وحتى المباشرة، بين الجانبين، الأميركي والإيراني. وهذا ما حصل أكثر من مرّة، سواء في سورية أم في العراق. وبلغت هذه المصادمات الذروة بالهجوم على السفارة الأميركية في بغداد، سواء بالصواريخ أم بالمظاهرات الهجومية العنيفة التي قادها زعماء المليشيات المرتبطة عضوياً بالحرس الثوري الإيراني، وهي مليشيات تمكّن النظام الإيراني عبر واجهاته العراقية، ووسط صمت أميركي لافت، من دمجها مع منظومة الدفاع العراقية. حتى غدت تحصل بموجب ذلك، على الدعم المالي والسلاح والتغطية القانونية والسياسية، هذا في حين أنها ملتزمة بولائها الإيراني، وبالتعليمات والأوامر القادمة من وراء الحدود.
وجاء الرد الأميركي المباشر على التصعيد الإيراني في العراق عبر قصف مواضع "الحشد الشعبي" في كل من سورية والعراق؛ ومن ثم كان الإقدام على اغتيال رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني نفسه، والمجموعة التي كانت معه. وأصبح العراق ساحة مواجهة مفتوحة على جميع الاحتمالات، فمن جهةٍ هناك حراكٌ شعبيٌّ يطالب بوضع حد للفساد الأسطوري المهيمن على الزمرة السياسية العراقية التي تتحكّم في البلد منذ سقوط نظام صدّام حسين عام 2003. هذا الفساد الذي يحرم العراقيين من ثروات بلدهم، بل يحرمهم من الكهرباء والماء النظيف، وأبسط مقوّمات البنية التحتية. هذا إلى جانب الضعف الفاضح في المؤسسات التعليمية والصحية والخدمية بصورة عامة، وذلك كله في دولةٍ تعوم على بحر من 
النفط، وتمتلك خيراتٍ وإمكاناتٍ كثيرة.
ويبدو أن موضوع الفساد بات معلماً مزمناً من معالم هذه الزمرة التي جاءت إلى الحكم نتيجة الأخطاء الأميركية، والحرص الإيراني على السيطرة الشمولية على مفاصل الدولة والمجتمع العراقيين. لذلك أصبح الفساد من أسلحة التحكّم في هؤلاء السياسيين، فملفات الفساد تدين الجميع، وتلزمهم بالطاعة والالتزام بأوامر ولي النعمة. كما أن حالات الفساد الكبرى قد أفسحت المجال أمام فوضى منظّمة، مكّنت النظام الإيراني من استنزاف قدرات العراق المالية، وتوظيفها في مشاريع التمدّد الإقليمي، سواء في سورية أم في لبنان، وحتى في اليمن.
ونتيجة تراكمات عقد ونصف العقد من الفساد الشمولي والمحسوبيات والبهلوانيات والتهريج، أدرك أبناء بلاد الرافدين وبناتها، وهي أرض الحضارات والثقافات، أن الآفاق مسدودة أمامهم، خصوصا في بغداد والمحافظات الجنوبية الذين وجدوا بأمّ أعينهم طبيعة التزييف الحاصل، والهيمنة الإيرانية الكاسحة في الساحة. كما تعرّفوا عن قرب على ماهية المبشرين بالمشروع الإيراني، ومعظمهم ممن لم يتمكّنوا من تحقيق أي تميّز بإمكاناتهم الذاتية، وطاقاتهم الإبداعية، فتحولوا إلى مجرد براغي في الماكينة الإيرانية الإعلامية، والاستخباراتية؛ وتلك المؤسسات العراقية اسماً، والتابعة فعلاً لتعليمات مرشد نظام ولي الفقيه الإيراني وأوامره.
وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن هذه السياسة عامة، اتبعها النظام الإيراني مع تابعيه 
اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والكرد، ومحورها الاعتماد على شخصياتٍ هامشية أصلاً في مجتمعاتها، مستعدة لفعل أي شيء بغية تصدّر المشهد، أو الاستفادة من تبعات الفساد. ومع الوقت، تتحوّل إلى مجرد أدوات لا حول ولا قوة لها؛ بل قد يبلغ المطاف بهؤلاء إلى حد التفاخر بهذه الدور، وذلك في سعي منهم إلى إبطال مفعول الانتقادات التي توجه، أو ستوجه، إليهم، بعد انكشاف الأمر، وزوال الهيبة التي كانوا يتسترون بها.
ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات في العراق ولبنان، وحتى في إيران نفسها، بات المشروع الإيراني الذي استثمر كثيراً في اعتماد المذهبية أداةً لبلوغ مآرب سياسية لصالح النظام في مهب الريح. ولم تنفع كل أساليب التهديد والوعيد مع الاحتجاجات، كما لم تنفع ممارسات التغييب التي كانت عادةً ترهب الناس. كما لم تنفع معها شعارات المقاومة والممانعة التي تيقّن الناس، بعد تجارب أليمة مريرة، أنها مجرّد تغطية للسيطرة عليهم، والتحكّم في إراداتهم وأرزاقهم. وأمام إصرار المتظاهرين على الإصلاح، وتعقيدات الأوضاع الإقليمية وتفاعلاتها الدولية، اضطرت حكومة عادل عبد المهدي إلى الاستقالة، وهي الحكومة التي كانت تمثّل الحد الأدنى من التوافق الأميركي - الإيراني في العراق. لذلك لم تتمكّن من الاستمرار بعد اضطراب العلاقات بين الطرفين، وتزايد حدة خطاب المواجهة بينهما. واستمرت الخلافات، وارتفعت وتيرة التصعيد، ما قطع الطريق أمام كل من محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي لتشكيل حكومة التكنوقراط المستقلين، وهي بدعةٌ في مجتمعاتٍ محكومةٍ بمليشيات لا تلتزم بالاعتبارات الوطنية.
ويبدو أن أزمة كورونا قد أدت إلى تهدئة اللعبة بعض الشيء بين الولايات المتحدة وإيران في العراق، كما أنها خفّفت من ضغط المحتجين على السياسيين العراقيين، فالنظام الإيراني يدرك أن المواجهة المفتوحة مع الأميركان ليست في صالحه على كل المستويات، ولذلك لجأ إلى أسلوب الاستنزاف، وإرسال الرسائل التي قد تفيد في المفاوضات غير المباشرة. كما أن 
الولايات المتحدة المشغولة بخلافاتها الداخلية، وأزمتها غير المسبوقة مع جائحة كورونا؛ هذا إلى جانب العلاقات المتوترة مع الصين، وحالة البرود التي تخيّم على علاقاتها مع الأوروبيين، تريد هي الأخرى التهدئة، والعودة إلى سياسة بلوغ الحد الأدنى الممكن من التفاهمات، ولكن بشروطٍ جديدةٍ تتناسب مع المتغيرات المستجدّة.
ويبدو أن التوافق قد حصل على شخصية رئيس الوزراء المكلف الجديد، مصطفى الكاظمي، الذي يركّز، في خطابه، على الموضوعات التي تهم العراقيين جميعاً، مثل مكافحة الفساد، وإبعاد الساحة العراقية عن الصراعات الإقليمية والدولية، والحرص على العلاقات المتوازنة مع مختلف الأطراف الإقليمية، خصوصا مع الجانب العربي؛ وتأكيد أهمية المشروع الوطني العراقي الذي لا بد أن يكون بالجميع وللجميع، وعلى قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق، وتطوير ما تحقق حتى الآن لصالح مشاركةٍ حقيقيةٍ في الإدارات والقرارات والواجبات. ومثل هذا المشروع لا يعد حلاً للعراق فحسب، بل لدول المنطقة كلها بصورة عامة، خصوصا في سورية ولبنان، وحتى تركيا وإيران، فطالما أن الإرادات الدولية والإقليمية متوافقة، على الأقل وفق ما هو ظاهر راهناً، على موضوع عدم إعادة النظر في الخرائط التي رسمت للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، تكون هناك حاجةٌ ماسّة للبحث عن القواعد الواقعية الممكنة التي تساعد على تحسين شروط العيش المشترك في مجتمعاتٍ تتميز، من ناحية، بالتعدّدية الدينية والمذهبية والقومية والثقافية من جهة، وتعاني، في الوقت نفسه، من ارتفاع منسوب العصبيات ما قبل الوطنية، خصوصا المذهبية، من جهة ثانية.
هل سينجح الكاظمي في مهمته، أم أنها استراحة محارب بين الفاعلين شبه الوحيدين في المعادلة العراقية: أميركا وإيران، ريثما تنتهي زوبعة كورونا، وتتبلور ملامح الإدارة الجديدة في البيت الأبيض؟ النظام الإيراني معروف بصبره، ودهائه السياسي، وإتقانه فن التقدم والتراجع وقت اللزوم. أما الولايات المتحدة فلها، هي الأخرى، حساباتها الاستراتيجية الخاصة بالمنطقة والعالم؛ وهي حساباتٌ لا تتأثر كثيراً بمتغيرات سياسات الإدارة ومقتضياتها الانتخابية. وفي جميع الأحوال، تبقى الكلمة الفصل عراقياّ للعراقيين العاديين، إذا صحّ التعبير، فهؤلاء قد توصلوا، بفعل المعاناة والتجربة، إلى حقيقة أكيدة، أن العراق لن ينهض إلا بإرادة العراقيين أنفسهم. أما المشروع الإيراني في العراق الذي لم يحترم حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة، لن تكون من مآلاته إلا مزيد من تراكم المشكلات والأحقاد والتباعد بين مكوّناته.
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا