13 فبراير 2022
فيروس السلطوية الرقمية يضرب شرقاً وغرباً
من بين تداعيات عدّة جلبها علينا فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، هو إضافة مزيد من انتهاك حقوق الإنسان، لا سيما الحق في احترام خصوصية الأفراد وحياتهم الشخصية، من خلال زيادة معدلات الرقابة على سلوك الأفراد، وتتبع تصرّفاتهم، وتحرّكاتهم، خصوصاً أوقات الأمراض والأوبئة، كما هي الحال الآن مع فيروس كورونا؛ فعلى مدار الأسابيع الماضية، قامت بلدان عدة، خصوصاً في جنوب آسيا، مثل كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وكذلك الصين، بتطوير واستخدام تقنيات رقابية حديثة تستهدف تتبع المصابين بالفيروس ومعرفة دائرة اختلاطهم، من أجل مكافحته ووقف انتشاره، في حين تستخدم دولة مثل إسرائيل هذه التقنيات لفرض رقابة على حركة الأفراد، وتتبع تحرّكاتهم، ومعرفة أماكن وجودهم بحجة مواجهة الفيروس. ومن المتوقع أن يتزايد لجوء الدول، الديمقراطية والسلطوية، إلى تقنيات مشابهة خلال المرحلة المقبلة، بذريعة الحفاظ على الصحة العامة، وحماية مواطنيها من مخاطر الأوبئة. وسيكون من حق الهيئات والمؤسسات الحكومية الدخول على السجلات الطبية للأفراد، ومعرفة تاريخهم الصحي، وذلك من دون إذن مسبق منهم كما هي العادة.
ومن بين ما يعنيه ما سبق، دخولنا رسمياً في عصر السلطوية الرقمية الذي يفرض مزيداً من الرقابة والتحكّم في سلوك الأفراد بحجج صحية، وتحت ذرائع طبية. وإذا كان الأمر موجوداً بالفعل في الأنظمة السلطوية التي تستبيح حقوق مواطنيها الشخصية، وذلك من دون أدنى إحساس بالمسؤولية، أو خوف من المحاسبة، فإن ذلك السلوك السلطوي سوف يمتد ليشمل دولاً عادة ما توصَف بالديمقراطية والحكم الدستوري الذي يقوم، من بين أمور عديدة، على مسألة احترام خصوصية الأفراد، باعتبارها حقاً أصيلاً لا يمكن انتهاكه أو الانتقاص منه. وكنّا قد
شهدنا، في الماضي، حالات مماثلة استخدمت فيها بلدان ديمقراطية تقنيات الرقابة على الأفراد بشكل أدّى إلى انتهاك خصوصياتهم، على غرار ما حدث في أميركا بعد أحداث "11 سبتمبر" في عام 2011، حيث استباحت الإدارة الأميركية آنذاك خصوصيات الأفراد، بحجة مكافحة الإرهاب، وهو ما فضحه الخبير التكنولوجي الذي كان يعمل في وكالة المخابرات المركزية الأميركية، إدوارد سنودن، عام 2013، والذي كشف مدى توغّل الحكومة الفيدرالية الأميركية في الحياة الخاصة للمواطنين، عبر تقنيات ومنصّات رقمية للتجسس عليهم، من دون علمهم، بل والتجسّس على قادة وسياسيين خارج الولايات المتحدة.
الأكثر غرابة دفاع خبراء وباحثين غربيين عاملين في المجال الطبي والتقني عن خيار لجوء دولهم إلى فرض مزيد من الرقابة والتحكّم في حركة مواطنيهم، بذريعة حمايتهم (المواطنين) من مخاطر انتشار الأوبئة، على غرار ما فعله نيكولاس رايت، جرّاح المخ والأعصاب، والمتخصص في التكنولوجيا الطبية ويعمل في المركز الطبي في جامعة جورجتاون الأميركية. فقد نشر رايت مقالاً في مجلة فورين أفيرز، أشار فيه إلى أن جائحة "كوفيد 19" تفرض على الدول، السلطوية والديمقراطية، زيادة عمليات الرقابة الطبية على المواطنين. ويدّعي رايت أن هذه الرقابة هي في صالح المجتمع من الناحيتين الصحية والاقتصادية، ويستشهد على ذلك بما حدث عند مكافحة الأوبئة المشابهة خلال القرنين الماضيين، خصوصاً في بريطانيا. وهو ما ساهم بعد ذلك في زيادة مراقبة الدول الأوروبية مواطنيها من خلال وضع سجلّات مكتوبة
لإصاباتهم وأمراضهم، من أجل الرجوع إليها والاستفادة منها في مكافحة الأوبئة، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. ويعتقد رايت، بسذاجة منقطعة النظير، أن لجوء الدول إلى فرض مزيد من الرقابة لن يكون لأغراض سيئة، وإنما تقع ضمن ما يسميه "الاستخدام الحميد". ويدافع عن وجهة نظره من خلال استحضار برنامج التجسّس الداخلي الذي قامت به وكالة الاستخبارات الوطنية الأميركية عشية أحداث "11 سبتمبر"، وساهم، حسب قوله، في تقليل الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة، وربما منعها. ولتفادي الانتقادات التي يمكن أن توجّه إلى مثل هذا التوّجه، يروّج رايت مفهوماً جديداً هو "الرقابة الديمقراطية"، وهي بالنسبة إليه ضرورة يجب أن تلجأ إليها البلدان الديمقراطية، خصوصاً أميركا وبريطانيا، من خلال توسيع استخدامات تقنيات "الذكاء الاصطناعي".
ليست المشكلة هنا في توسيع رقعة الرقابة على الأفراد، بغض النظر عن الحجج والمبرّرات التي تُساق لتحقيق ذلك، وإنما في تحوّلها من الاستثناء إلى أن تصبح قاعدةً أساسية، بحيث يتم شرعنتها ومأسستها داخل النظم الديمقراطية. وهو ما يضرّ بأهم المبادئ التي تقوم عليها هذه الأنظمة، وهو مبدأ احترام الحريات والحقوق الشخصية، وفي مقدمتها الحق في الخصوصية. بل الأكثر من ذلك استخدام هذا التعدّي على حقوق الأفراد في الأنظمة الديمقراطية، من أجل
تبرير انتهاكات حقوق الإنسان في الأنظمة السلطوية، خصوصاً في منطقتنا العربية التي تبحث دائماً عن مثل هذه الاستثناءات وترويجها قاعدة في تعاطيها مع مواطنيها. صحيحٌ أن الأنظمة القمعية ليست في حاجة لتبرير سلوكها، خصوصاً أمام مواطنيها، إلا أن مزيداً من الانتهاكات لحقوق الأفراد الأساسية، خصوصاً في بلدانٍ ذات سمعة ديمقراطية، سوف يزيد من شرعنة هذه الانتهاكات في بلداننا وتبريرها ومأسستها.
لن تعجز الدول الديمقراطية عن إيجاد وسائل لرقابة مواطنيها، سواء من خلال تقنيات تكنولوجية حديثة يصعب التحقق منها، أو بفرض قواعد حياتية جديدة، تساهم في انتهاك حرياتهم وحقوقهم الشخصية، بذريعة السلامة العامة، ما يعني أن "فيروس" السلطوية الرقمية لم يعد قاصراً فقط على الدول القمعية، سواء في منطقتنا أو خارجها، وإنما أيضاً قد أصاب الدول الديمقراطية، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف مناعتها وشرعيتها السياسية.
الأكثر غرابة دفاع خبراء وباحثين غربيين عاملين في المجال الطبي والتقني عن خيار لجوء دولهم إلى فرض مزيد من الرقابة والتحكّم في حركة مواطنيهم، بذريعة حمايتهم (المواطنين) من مخاطر انتشار الأوبئة، على غرار ما فعله نيكولاس رايت، جرّاح المخ والأعصاب، والمتخصص في التكنولوجيا الطبية ويعمل في المركز الطبي في جامعة جورجتاون الأميركية. فقد نشر رايت مقالاً في مجلة فورين أفيرز، أشار فيه إلى أن جائحة "كوفيد 19" تفرض على الدول، السلطوية والديمقراطية، زيادة عمليات الرقابة الطبية على المواطنين. ويدّعي رايت أن هذه الرقابة هي في صالح المجتمع من الناحيتين الصحية والاقتصادية، ويستشهد على ذلك بما حدث عند مكافحة الأوبئة المشابهة خلال القرنين الماضيين، خصوصاً في بريطانيا. وهو ما ساهم بعد ذلك في زيادة مراقبة الدول الأوروبية مواطنيها من خلال وضع سجلّات مكتوبة
ليست المشكلة هنا في توسيع رقعة الرقابة على الأفراد، بغض النظر عن الحجج والمبرّرات التي تُساق لتحقيق ذلك، وإنما في تحوّلها من الاستثناء إلى أن تصبح قاعدةً أساسية، بحيث يتم شرعنتها ومأسستها داخل النظم الديمقراطية. وهو ما يضرّ بأهم المبادئ التي تقوم عليها هذه الأنظمة، وهو مبدأ احترام الحريات والحقوق الشخصية، وفي مقدمتها الحق في الخصوصية. بل الأكثر من ذلك استخدام هذا التعدّي على حقوق الأفراد في الأنظمة الديمقراطية، من أجل
لن تعجز الدول الديمقراطية عن إيجاد وسائل لرقابة مواطنيها، سواء من خلال تقنيات تكنولوجية حديثة يصعب التحقق منها، أو بفرض قواعد حياتية جديدة، تساهم في انتهاك حرياتهم وحقوقهم الشخصية، بذريعة السلامة العامة، ما يعني أن "فيروس" السلطوية الرقمية لم يعد قاصراً فقط على الدول القمعية، سواء في منطقتنا أو خارجها، وإنما أيضاً قد أصاب الدول الديمقراطية، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف مناعتها وشرعيتها السياسية.