08 نوفمبر 2024
أما آن للقيادة الفلسطينية أن تتنحّى؟
يميل الرئيس الفلسطيني، محمود عباس (أبو مازن)، في أحيان كثيرة، إلى استخدام مفردات مباشرة ومستفزة للتعبير عن مواقف سياسية يراها مركزية، حتى أنه ليخيل إليك أنك تقف أمام رئيس ثوري بامتياز. المشكلة أنك تجد في حالة عباس بونا شاسعا بين التعبير عن الموقف والسلوك السياسي. ولا يُستبعد أن ثمّة خلطا في ذهن الرجل بين قنبلة صوتية يلقيها عبر ميكروفون وسياسة يمارسها على الأرض. جديد الأمثلة في هذا السياق تصريحات عباس، يوم الثلاثاء الماضي (28 مايو/ أيار)، عن المؤتمر الاقتصادي العالمي الذي تزمع الولايات المتحدة عقده في البحرين تحت لافتة "السلام من أجل الازدهار"، في 25 و26 يونيو/ حزيران المقبل. "ستذهب صفقة القرن أو صفقة العار إلى الجحيم بإذن الله، وسيذهب المشروع الاقتصادي الذي يعملون على عقده الشهر المقبل ليقدموا لنا أوهاما كذلك إلى الجحيم". هذا ما قاله أبو مازن. وهو سبق له أن وصف، في سياق التصريحات العرمرمية، "صفقة القرن" بـأنها "صفعة القرن". كما سبق له أن نعت السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، بـ"ابن الكلب". وخاطب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بـ"يخرب بيتك" للسبب نفسه.
يتفق الشعب الفلسطيني وقواه الحية مع أبي مازن في الموقف من "صفقة القرن" من ناحية المبدأ، ولكننا تعلمنا ألا نراهن على "مواقف" القيادة الفلسطينية الرسمية، ذلك أنها دائما ما أعلنت المبدأ ومارست نقيضه على الأرض. ولمن كانوا يعانون من ضعف ذاكرةٍ، فإننا نحيلهم إلى تصريحاتٍ وتوصياتٍ وقراراتٍ ومواقف كثيرة، صدرت في السنوات القليلة الماضية عن أبي مازن، وقيادات في السلطة الفلسطينية، والمجلسين، الوطني والمركزي، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، تتوعد بإعادة النظر في الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها، فضلا عن إيقاف تجذير السلطة مهزلة "الاحتلال من دون كلفة" الذي تنعم به إسرائيل في الضفة الغربية. وكان هذا التعبير قنبلةً صوتيةً أخرى، أطلقها أبو مازن في يناير/ كانون الثاني 2018. أين كل تلك القرارات والتصريحات على أرض الواقع؟ إنك لن تجد لها أثرا، فمرة أخرى ثمّة فارق بين الواقع والمقال.
قال عباس عن مؤتمر البحرين المرتقب: "من يريد حل القضية الفلسطينية عليه أن يبدأ
بالقضية السياسية، وليس ببيع أوهام المليارات التي لا نعلق عليها آمالا، ولا نقبل بها، لأن قضيتنا سياسية بامتياز.. قضيتنا تتقدّم خطوة خطوة، وسنصل بإذن الله إلى الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف". تُرى أيملك أبو مازن إجابةً لو سأله أحدهم: ما هي أمارات ودلائل تقدّم قضيتنا "خطوة خطوة" باتجاه "الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف"؟ إنه قطعا لا يملك إجابة، دع عنك جانبا القنابل الصوتية التي تعبر عنها التصريحات والعبارات الرنانة. لقد اعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقلت سفارتها إليها، وراهنت إدارة ترامب أن غضب الفلسطينيين سيكون زوبعةً في فنجان لا تلبث أن تخمد، وقد كان، بفضل جهود السلطة في ضبط الإيقاع الشعبي الفلسطيني، والتواطؤ الأمني المستمر مع إسرائيل. وفي مقاربة إدارة ترامب، لا يوجد ما يمنع أن يكون مصير كل معارضة من القيادة الرسمية الفلسطينية أي "صفعة" جديدة زوبعة أخرى في فنجان.
يتابع أبو مازن: "قلنا كلمتنا ونقولها في كل وقت، وأصدرنا البيانات اللازمة بأننا لن نقبل بهذا الاجتماع ونتائجه، لأنهم يبيعون لنا الأوهام التي لن يصل شيء منها إطلاقا، ونحن لسنا بحاجة لدعمهم، لأننا، بفضل جهود أبناء شعبنا الفلسطيني، قادرون على أن نبني دولةً عصريةً حديثة بكل امتياز". تُرى أتغني البيانات عن المواقف؟ وكيف لنا أن "نبني دولةً عصريةً حديثة"، وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية تعتقل الناس على الرأي والانتماء السياسي، كما تقوم بالمهمات القذرة نيابة عن سلطات الاحتلال نفسها التي تهين الشعب الفلسطيني وقادته، بل وحتى رئيس السلطة الفلسطينية ذاته؟
ليست القضية الفلسطينية بحاجة إلى "البيانات اللازمة" اليوم، بل هي بحاجةٍ إلى المواقف اللازمة. هي بحاجةٍ إلى إحياء المشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة إطلاقه على أرضيةٍ توافقية، من دون المس بثوابته العليا والكبرى، وإضعافها مستقبلا. أيضا، لا يمكن الحديث عن إنهاء الاحتلال، وأجهزة أمن السلطة تحوّلت إلى ذراع له، وقوة بطش تعمل نيابة عنه. كما أنه لا يمكننا إسقاط "صفقة العار"، فيما نحن عاجزون عن إنهاء "انقسام العار" بين الضفة الغربية وقطاع غزة، الثغرة المخزية التي ينفذ منها مهندسو "صفقة العار". ليس الواقع العربي مخزيا فحسب، بل إن كثيرين من أطرافه متواطئون متآمرون على فلسطين، وكيف لهم ألا يتآمروا عليها، وهم لا يتورعون في إجهاض دولهم نفسها، وشعوبهم؟
أهم المواقف اللازمة في هذه السياق أن تتنحّى القيادة الرسمية الفلسطينية عن الواجهة. منذ
عقود وهم يقودوننا من فشل إلى آخر، ومن كارثة إلى أخرى. ما تمر به قضيتنا هو، في جزء كبير منه، حصاد أخطاء تلك القيادة، إن لم يكن انعدام كفاءاتها الوطنية والمهنية. يكفينا أن نعود إلى ما فعله هؤلاء منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 1991. إنهم الأشخاص أنفسهم الذين سلموا، حينها، لـ"رسالة التطمينات" الأميركية الماكرة، والتي نصت على مرحلتين تفاوضيتين، الأولى بشأن "ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي"، والثانية "المفاوضات حول الوضع الدائم". وجاء اتفاق أوسلو الكارثي، في سبتمبر/أيلول 1993، ليرسّخهما، وبالتالي رُحِّلَت القضايا المركزية التي تُمثل جوهر الصراع، كالقدس واللاجئين والسيادة والحدود.. إلخ، إلى "مفاوضات الوضع النهائي". ومنذ ذلك اليوم، لا زلنا نعيش مرحلة "ترتيبات الحكم الذاتي"، ولمَّا تحل بعد مرحلة "مفاوضات الوضع الدائم". يحدث ذلك، وإسرائيل لا تتوقف عن المضي في طريق إجهاض أي إمكانيةٍ لقيام دولتين، ولا تتوقف جهودها في تهويد الأرض والقدس، بعد أن نجحت في إلحاق السلطة الفلسطينية بها جهازا أمنيا ومدنيا وبلديا، لإراحتها من عناء تدبير شؤون الملايين من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. أما الولايات المتحدة، فكل إدارة تأتي بتنازلاتٍ جديدةٍ لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، حتى وصلنا إلى ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتبر اللاجئين الفلسطينيين حالةً مفتعلة غير قائمة، وهو لا يخفي نبذه فكرة "الدولتين"، الفلسطينية والإسرائيلية، ويظن أن الفلسطينيين سيقبلون بالقوادة على حقوقهم الوطنية، إذا عُرِضَ عليهم المال الوفير، كما يُفْتَرَضُ أن يفعل مؤتمر البحرين.
أرحام الشعب الفلسطيني لم تعقم إنجاب كفاءاتٍ سياسية وفكرية ووطنية ومقاومة، كما أن تاريخ هذا الشعب أثبت، مرة بعد أخرى، أنه لا يساوم على حقوقه، وآن الأوان لمن أوصلونا إلى هذا القاع الآسن أن يخجلوا، ولو لمرة في حياتهم، ويتنحّوا جانبا، فالشعب أقدر على أن يفرز قيادات جديدة قد تنجح في رقع الفتق الذي أحدثوه، واتسع في سيرورة مشروعنا وآمالنا الوطنية. بغير ذلك، نحن من سيمضي إلى "الجحيم"، لا "صفقة العار".
يتفق الشعب الفلسطيني وقواه الحية مع أبي مازن في الموقف من "صفقة القرن" من ناحية المبدأ، ولكننا تعلمنا ألا نراهن على "مواقف" القيادة الفلسطينية الرسمية، ذلك أنها دائما ما أعلنت المبدأ ومارست نقيضه على الأرض. ولمن كانوا يعانون من ضعف ذاكرةٍ، فإننا نحيلهم إلى تصريحاتٍ وتوصياتٍ وقراراتٍ ومواقف كثيرة، صدرت في السنوات القليلة الماضية عن أبي مازن، وقيادات في السلطة الفلسطينية، والمجلسين، الوطني والمركزي، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، تتوعد بإعادة النظر في الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها، فضلا عن إيقاف تجذير السلطة مهزلة "الاحتلال من دون كلفة" الذي تنعم به إسرائيل في الضفة الغربية. وكان هذا التعبير قنبلةً صوتيةً أخرى، أطلقها أبو مازن في يناير/ كانون الثاني 2018. أين كل تلك القرارات والتصريحات على أرض الواقع؟ إنك لن تجد لها أثرا، فمرة أخرى ثمّة فارق بين الواقع والمقال.
قال عباس عن مؤتمر البحرين المرتقب: "من يريد حل القضية الفلسطينية عليه أن يبدأ
يتابع أبو مازن: "قلنا كلمتنا ونقولها في كل وقت، وأصدرنا البيانات اللازمة بأننا لن نقبل بهذا الاجتماع ونتائجه، لأنهم يبيعون لنا الأوهام التي لن يصل شيء منها إطلاقا، ونحن لسنا بحاجة لدعمهم، لأننا، بفضل جهود أبناء شعبنا الفلسطيني، قادرون على أن نبني دولةً عصريةً حديثة بكل امتياز". تُرى أتغني البيانات عن المواقف؟ وكيف لنا أن "نبني دولةً عصريةً حديثة"، وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية تعتقل الناس على الرأي والانتماء السياسي، كما تقوم بالمهمات القذرة نيابة عن سلطات الاحتلال نفسها التي تهين الشعب الفلسطيني وقادته، بل وحتى رئيس السلطة الفلسطينية ذاته؟
ليست القضية الفلسطينية بحاجة إلى "البيانات اللازمة" اليوم، بل هي بحاجةٍ إلى المواقف اللازمة. هي بحاجةٍ إلى إحياء المشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة إطلاقه على أرضيةٍ توافقية، من دون المس بثوابته العليا والكبرى، وإضعافها مستقبلا. أيضا، لا يمكن الحديث عن إنهاء الاحتلال، وأجهزة أمن السلطة تحوّلت إلى ذراع له، وقوة بطش تعمل نيابة عنه. كما أنه لا يمكننا إسقاط "صفقة العار"، فيما نحن عاجزون عن إنهاء "انقسام العار" بين الضفة الغربية وقطاع غزة، الثغرة المخزية التي ينفذ منها مهندسو "صفقة العار". ليس الواقع العربي مخزيا فحسب، بل إن كثيرين من أطرافه متواطئون متآمرون على فلسطين، وكيف لهم ألا يتآمروا عليها، وهم لا يتورعون في إجهاض دولهم نفسها، وشعوبهم؟
أهم المواقف اللازمة في هذه السياق أن تتنحّى القيادة الرسمية الفلسطينية عن الواجهة. منذ
أرحام الشعب الفلسطيني لم تعقم إنجاب كفاءاتٍ سياسية وفكرية ووطنية ومقاومة، كما أن تاريخ هذا الشعب أثبت، مرة بعد أخرى، أنه لا يساوم على حقوقه، وآن الأوان لمن أوصلونا إلى هذا القاع الآسن أن يخجلوا، ولو لمرة في حياتهم، ويتنحّوا جانبا، فالشعب أقدر على أن يفرز قيادات جديدة قد تنجح في رقع الفتق الذي أحدثوه، واتسع في سيرورة مشروعنا وآمالنا الوطنية. بغير ذلك، نحن من سيمضي إلى "الجحيم"، لا "صفقة العار".