تونس واستعادة أسئلة النهضة العربية

26 مارس 2019
+ الخط -
إلى: سلوى الحمروني، عبد اللطيف الهرماسي، مولدي الأحمر
 
لم تهدأ في تونس الزوبعةُ التي أثارها التقريرُ الذي أطلقته لجنةُ الحريات الفردية والمساواة، في يونيو/ حزيران 2018، بعد نحو سنةٍ من العمل، منذ شكَّلها الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، ليطلق نقاشًا فكريًا مفصليًا، لا يخص تونسَ وحدها، بل سائر البلدان العربية، قد لا يكون السبسي يقصده، بقدر ما كان يقصد منجزًا فئويًا أو شخصيًا، وهو يسعى إلى أن يظهر بمظهر حامي الإرث البورقيبي، ومستكمل إصلاحاته.
أقول: مفصلي، لأن النقاش العام الذي تعيشه تونس يستعيد الأسئلةَ الحضارية المركزية للنهضة العربية الحديثة، والتي تدور، لا فقط على علاقة الذات العربية الحديثة بالغرب، وحداثته، بوصفه مركزَ الإنتاج الحضاري الراهن، بل التحدّي الذي تفرضه قيمُ الحداثة الغربية في كونها أنموذجًا كونيًا، لا يصلح للإنسان الغربي فقط، بل للبشر أينما كانوا، ومتى ما كانوا، وكيفما كانوا، فالمساواة، والعدالة، والحريّة، والحقوق، ليست امتيازاتٍ لبشر الغرب دون غيرهم، وليست "ثقافة"، يمكن أن تعارضها ثقافة أخرى. إنها مكتسبات "طبيعية" (في مقابل ثقافة)، ينبغي أن تكون لكل إنسان. ويستتبع هذا الإقرارُ إشكالياتٍ فكريةً كبرى، فكيف تُفصَل الحداثةُ الكونية عن مُنتِجها، الغرب، الذي سلك - خلال تاريخنا الطويل معه - سلوك المهيمِن، بدءًا من الاستعمار، وليس انتهاءً بالعولمة؟ وكيف نستطيع أن نميّز، في كمّ الحداثة الغربية، بين ما هو كوني وما هو أداة هيمنة واستتباع، ثقافية ورمزية؟ وكيف نحل مشكلة تعارض (أو احتمال تعارض) الحداثة الكونية مع تراثنا، حامل الهوية، وجزء كبير منه ديني، وذو طابع قداسي؟ وبالأحرى، كيف نحل التعارض بين الحداثة الكونية وهويتنا، الحضارية والثقافية؟

هذه الأسئلة كانت طرحتها النهضة العربية الحديثة، وهي تواجه الغرب. ولم تغب هذه الأسئلةُ خلال قرن ونصف قرن، فظلت حيّة، متوقدة، وحارّة.
أقول: مفصلي، لأن هذا البلد، الصغير والطرفي، لكن الأنموذجي، يستعيد الأسئلةَ الحضارية للنهضة العربية، لا في سياق بناء دولةٍ فقط، بل في سياق تجربة انتقال ديمقراطي جادّة. وتونس هي البلد الوحيد الذي نجا من ركام الثورات العربية على أنظمة الاستبداد.
لقد سيطرت على واجهة المشهد الفكري العربي، على الرغم من الحضور المستمر لأسئلة النهضة السالفة، خلال هذا القرن ونصف القرن، أسئلة أخرى، مهمة وجدية بكل تأكيد، من قبيل سؤال الهوية الوطنية، والاندماج المجتمعي، ثم سؤال الحريات العامة ومواجهة الأنظمة التسلطية والإصلاح السياسي وإمكانات الانتقال الديمقراطي الذي أرهق العربَ ردحًا طويلًا من الزمن.
في تونس، وللمرة الأولى في الثقافة العربية ربما، ينشبك السؤالان معًا: السؤال الحضاري التأسيسي عن موقعنا من الحداثة الكونية، وسؤال تأمين انتقال ديمقراطي ناجح ومستدام... هذا مع أن سؤال الانتقال الديمقراطي نفسه لا يزال مستمرًا في تونس، صعبًا وحادًّا وغير محسوم، فلم يزعم التونسيون أنهم فرغوا من عملية الانتقال الديمقراطي. وإذا استطاعت تونس تأمينَ الخروج من النظام الاستبدادي، وبناء المؤسسات السياسية لنظام ديمقراطي، فإن السؤال الأصعب لا يزال ماثلًا أمامها، وهو ترسيخ الديمقراطية. ومنظّرو الديمقراطية يميّزون بين الانتقال transition إلى الديمقراطية وترسيخها consolidation. وما يواجه ترسيخَ الديمقراطية حزمةٌ معقدةٌ من العوامل، ليست سياسية فقط، بل اقتصادية وتنموية أيضًا، ذات صلة بالوضع الاقتصادي، ومعدلات النمو، والبطالة، والفقر، ومؤشرات التنمية، ودرجة التحديث، وحجم الفئات الوسطى، وما إلى ذلك.
والثورة التونسية انطلقت بشعار "الكرامة"، التي أهدرتها أنظمةُ الاستبداد، بمعنى أنها لم تحرّكها مطالبُ تداول السلطة والحريات العامة فقط. وبالأحرى، لم تكن هذه المطالبُ الشعارَ الأول، بقدر ما كانت نتاجَ قدرة النخب المثقفة والحقوقية والسياسية على إلحاق هذه المطالب السياسية ودمجها بمسار الانتفاضة العامة على ما راكمته أنظمةُ الاستبداد من جرحٍ لكرامة الإنسان. ومن ثم، لن يكون بمستطاع الانتقال الديمقراطي في تونس أن يمضي من دون معالجة السؤال الأساسي الذي حرّك الثورةَ وأطلقها.
التجربة التونسية، من هذه الزاوية، مهمةٌ للسجال النظري في دراسات الانتقال الديمقراطي عن علاقة التحديث بالدمقرطة، وإلى أي حد أو درجة هي مشروطةٌ به. ومع أن نقاطًا أساسية في مسار الانتقال الديمقراطي في تونس صنعتها صفقاتٌ سياسيةٌ بين الفاعلين السياسيين الأساسيين، سيبقى "التحديث" (وهو، هنا، طيفٌ واسع، يبدأ من القيم الثقافية، ولا يتوقف عند معدلات الدخل الفردي) امتحانًا جادًا، يحدّد شكلَ المسار الذي سيُكمله الانتقال الديمقراطي في تونس.
والأهم، في تقديري هنا، أن التجربة التونسية تعطي لعلاقة التحديث بالدمقرطة معنىً أوسع، فارتباطُ السؤالين الحضاري والسياسي في هذه التجربة يؤسّس لأن لا تُختزَل الديمقراطيةُ بكونها مجموعة أدواتٍ أو تقنيات تضمن التداول السلمي للسلطة، بل إنها لا يمكن أن تكون من دون قيم ثقافية جَمْعية. وبكلمة: تعيد التجربةُ التونسية الديمقراطيةَ إلى معناها الحضاري والثقافي، لا السياسي المختزل.
وهذا لا يحدث بنزعة تغريبية، تهمل العنايةَ بالسياق الحضاري والثقافي، أو (في الأقل) لا يريده التونسيون هكذا. ولذلك، تضع تونس أجوبتَها في سياق أجوبة النهضة العربية. والسجال الأخير هو الموجة الأحدث من هذه الأجوبة، وآخر جيلٍ فيها، وهو الذي يقدّم نفسَه بهذا الشكل. من هنا، يلح مثقفو تونس ومثقفاته على ربط هذا السجال بالإرث النهضوي والتحديثي المحلي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والذي يَرَوْن أنه مصدر كل تحديث لاحق، وأن ما جرى، منذ تلك اللحظة، في إدراك التحديث وتصوّره، هو خيط مستمر.
وإذا كان المثقفون التونسيون يمتنعون عن ربط هذا الإرث التحديثي بسؤال التحديث وإمكاناته الذي كان يشغل المنطقة كلها وقتذاك، بدءًا من المركز الإمبراطوري العثماني، والذي لا 
ينفصل، بلا شك، عن تأثيرات الأنوار الأوروبية، فإنهم يعطون لحركتهم إطارًا محليًا، يُجنّبها من أن تُختزَل إلى كونها مجرد صدىً باهت لحصيلة الحداثة الأوروبية، بقدر ما أنها تتويجٌ لمسيرة نضالٍ مستمر للنخب التونسية.
وربطُ السجال الراهن بالإرث النهضوي التونسي ليس شكلًا من أشكال التلفيق، بل إنه تعبيرٌ عن أَن التحديث حاجةٌ محلية، وليس من أشكال تقليد المغلوب للغالب، بتعبير ابن خلدون.
يكشف هذا الجواب النهضوي التونسي عن طريقٍ رابعة، لا يكشفها منطقُ الاحتمالات الذي يقسّم طرقَ استجابة المثقفين العرب للحداثة الأوروبية، وقد وقعوا في قلب الصدام بين الأنا والآخر، إلى ثلاث: إما ليبرالية تذوب في حداثة الآخر الغربي، أو أصولية ترفضها وتستمد من تراث الأنا، أو تلفيقية تحاول الجمع بين الاثنين. الجواب الرابع، التونسي، أن أخذ الحداثة ضروري وممكن، ضروري لحاجات محلية، وممكن بأطر محلية.
التحدّي الأساسي أمام هذا السجال المفصلي الذي تعيشه تونس هو أن يجري تسييسه، أي الخروج (أو أن يُستعجَل الخروج) منه بنتائج ذات طابع سياسي، أو لأقل: حزبي، ذلك أن جزءًا أساسيًّا من موضوع السجال هو سياسي، بلا ريب. وتحزيبُ السجال يعني تحويلَه إلى مغالبة حزبية، تكون نتائجُها ذات صلةٍ بالتوازنات والتنافسات الحزبية القائمة، فتُحسَب نتائجُ السجال انتصارًا لحزب أو جهة سياسية، وهزيمة لحزب أو جهة سياسية أخرى.
إن تحزيب السجال لن يختزله من كونه سجالًا حضاريًا مفصليًا إلى أن يكون مغالبةً سياسيةً فقط، بل إنه سيخرجه من مضمونه الحواري المهم والحيوي، ويصيّره مماحكةً مرّة بين طائفتين. وقد بات بعض المثقفين التونسيين يتحدّثون عن أن هذا السجال شطر تونس إلى ما يشبه الطائفتين المغلقتين.
من هنا، سيكون مهمًا جدَّا أن تعي النخب التونسية، وهي تخوضُ هذا السجال، مضمونَه الحضاري التأسيسي، ومفصليتَه، وطابعَه العابر لتونس. أما نحن، مثقفي العرب، الذين يرى جزء غير قليل من النخب التونسية أننا نُؤمثِل التجربةَ التونسية أكثر من اللازم (وسيرى في هذا المقال مصداقًا جديدًا على هذه الأمْثَلَة)، بالتركيز على الكليّات، من دون التفاصيل التي يمكن أن تنسف ما بقي من كليات، فلا ينبغي لنا أن نبتعد عن هذا السجال المفصلي، ذلك أن الكليات، في مثل هذه اللحظات المفصلية، أهم بكثير من التفاصيل. ومن ثم، ينبغي أن ننخرط في هذا السجال، تفاعلًا وإسهامًا ومشاركة ورأيًا ومناصرة، ذلك أنه والأجوبة التي سيتمخض عنها تخصّنا (على نحو جوهري وصميمي) مثلما تخص تونس، والنارُ التي أشعلت جسدَ محمد البوعزيزي في بلدته الصغيرة في جنوبي تونس، وتخطت حدود بلاده، لم يقرّ قرارُها بعد.
795C5AFE-B476-4BF0-BDDF-64D4E8AB3793
795C5AFE-B476-4BF0-BDDF-64D4E8AB3793
حيدر سعيد

باحث عراقي في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية"

حيدر سعيد