الإخفاق الروسي وقانون سيزر

15 ديسمبر 2019
+ الخط -
مشكلة روسيا في توهمها أنّها دولة عظمى؛ فهي أصبحت دولة تتحكم بها "مافيا" تسلطية، وارثة لإنتاج عسكري كبير. توهمها ذاك دفعها إلى مقارعة أميركا وأوروبا مع وصول بوتين إلى الحكم، ولكن المقارعة تلك لم تكسبها إلّا عقوباتٍ تتعاظم تباعاً، وتردّياً في أحوال اقتصادها، وحياة أغلبية سكانها. جاء الرد الروسي أيضاً على الدول العظمى عبر دعم القوى الشعبوية اليمينية في أوروبا، المنبوذة بدورها في بلادها، والتي لن يكون لها دور كبير في مستقبل أوروبا، وبالتالي تلعب روسيا في الزوايا الخاطئة لما يؤثر بأوروبا وأميركا. روسيا المتدخلة في سورية، وعلى الرغم من أن ذلك حصل بصمتٍ أميركي وأوروبي، فإنها لم تستفد منه، وتفرض سيطرة حقيقية على سورية، وليس سيطرة زائفة، تتعرّض وستتعرض للانهيار في المستقبل. 
كان في مقدور روسيا أن تعقد صفقة وتسوية حقيقية مع أميركا وأوروبا وتركيا وتسيطر على سورية، ولكنها اختارت الطريق الخاطئ، حين تحالفت مع إيران والنظام السوري، ولاحقاً مع تركيا والتنسيق مع إسرائيل، وباعت أسلحة إلى مصر والخليج العربي، وفي العراق لم يكتب لها أي نجاحٍ تستثمره لاحقاً. إنها تتحرك في أماكن لا تهتم بها أميركا، ولهذا تنجح هنا وهناك. وفي سورية لم تهتم أميركا يوماً بإسقاط النظام، وراقبت كيفية تحويل الثورة إلى حرب أهلية وذات بعد طائفي، وكيف تحولت الفصائل إلى إسلامية، أي وافقت على عدم إسقاط النظام وعدم انتشاله 
بسهولة كذلك، وهذا ما ورّط النظام نفسه فيه، إذ دفع الأمور نحو ما ذكرنا. روسيا الساعية إلى استعادة مجد الاتحاد السوفييتي، وافقت على الدخول إلى سورية حالما استدعتها إيران والنظام، لنجدة الأخير وخوفاً من دحر إيران ذاتها، ولكن ضعف القوة الروسية وقوة الثورة وكثرة المتدخلين في الوضع السوري، وضعت روسيا في حالةٍ مربكة، واضطرت إلى تفكيك بعض المسارات (جنيف والقرار 2254) واستبدلت بها تفاهمات أستانة وسوتشي، ولكن ذلك جعلها رهينة تحالفاتٍ مع تركيا وإيران، وكذلك للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أي لأميركا والدول الداعمة للحلف والمشاركة فيه. روسيا بذلك تُحاصر نفسها، ولا تحاصر أميركا أو أوروبا، اللتين لم تقولا يوماً إنهما طامعتان في سورية. سياسات روسية الهشّة دفعتها إذاً إلى أن تكون رهينة أعدائها وحلفائها في آن واحد!
ثورتا العراق ولبنان كانتا وبالاً على روسيا والنظام في سورية، حيث حاصرت الثورتان نظاميهما اللذين كانا بمثابة منفذَين للنظام السوري على العالم، ولتخفيف الحصار عليه، وضمن ذلك لم يعد في مقدور النظام العراقي دعم شقيقه السوري بمليارات الدولارات أو بالمليشيات. النظام يتهاوى اقتصادياً بفعل ذلك، وروسيا وإيران المحاصرتان لا تستطيعان إنقاذه، وهو لا يستطيع السير بالضغط على التجار أو الفاسدين إلى النهاية، حيث هو ذاته غارق في الفساد وحامٍ لهم في آن واحد. نتيجة ذلك كله، العملة السورية تنهار، ورصيد البنك المركزي من العملة الصعبة يكاد ينفد، والوضع المعيشي لأغلبية السكان يتردّى، وهناك من يتوقع ثورة جياع في المناطق المحسوبة على النظام. كل هذا الفشل يعني شيئاً أكبر من النظام، فالأخير خارج العلاقات الدولية منذ أكثر من ثماني سنوات، بينما الفشل الحقيقي يطاول روسيا التي لم تستطع تعويم النظام مجدّداً، ليس لدى أوروبا، بل في الخليج كذلك. وتركيا ما زالت تماطل في إقامة علاقات معه، ولديها شروط سياسية عليه كما حال أميركا وأوروبا. وبخصوص إسرائيل، ليس بمقدور روسيا إقامة سلم بينها وبين النظام في الظروف الحالية. روسيا تكدّس الفشل تلو الآخر إزاء سورية ومع السوريين، وهي بذلك لا تستطيع شرعنة النظام دولياً وإقليمياً، وهي ذاتها تتعرض لعقوبات جديدة.
وسيكون قانون سيزر الذي تتوقع أوساط كثيرة تمريره في الولايات المتحدة بمثابةِ حصار أميركي كبير على النظام وعلى حلفائه، وسيُغلق المنافذ التي كانت واشنطن تسمح بها، وسيشمل كل الدول والأشخاص الذين كانوا يسهلون للنظام تأمين احتياجاته الصناعية والتجارية والعسكرية، وستطاول آثاره روسيا كذلك، وسيشمل كل الشخصيات الأساسية في النظام والمتعاملين معه. تضاف إلى هذا القانون السياسة التي سيطرت أخيراً الولايات المتحدة بموجبها على أغلبية آبار النفط السورية، أي منعت النظام وروسيا نهائياً من الاستفادة منها، وأميركا بذلك تصبح شريكاً مباشراً في أية تسوية سياسية تخص مستقبل النظام.
أخفقت روسيا في إنقاذ نفسها عبر التمدّد عسكرياً في البحر المتوسط، وعبر مئات المعاهدات مع 
النظام للهيمنة على الاقتصاد السوري، وعلى مختلف مؤسسات الدولة، حيث لأميركا وأوروبا دور مركزي في إعادة الاعمار، أو في تسهيل أيّة سياسات روسية جادّة في سورية. وإذا لم يوقّع ترامب قانون سيزر، فلن يتوقف ذلك الإخفاق والحصار الذي يتعاظم ضد النظام، ولكن الضغوط التي يتعرّض لها الرئيس الأميركي داخلياً، وعدم وجود شق عسكري لقانون سيزر، سيشجعان ترامب على توقيعه على الأغلب.
ولكن، إذا لم يوقّع الرئيس أو وقّع على قانون سيرز، فإن روسيا معنية بإيجاد سياسة جديدة، تنهي مسار الآستانة وسوتشي وكذلك اللجنة الدستورية، حيث لا إمكانية حقيقية لحلِّ روسي مستقل للوضع السوري، وعدا ذلك أصبحت المعارضة السورية ضعيفة، وسيجري احتواء قوات سورية الديمقراطية (قسد)، سيجري احتواؤها لاحقاً عبر أية تسوية سياسية جادة. وهنا ستجد روسيا نفسها أمام أهداف الثورة السورية مجدّداً، أي ضرورة إحداثِ تغييرٍ كبير في طبيعة النظام، ليجري تعويمه مجدّداً في النظام العالمي، وهذا فقط ما سيسمح بتمويل مشاريع المعاهدات التي عقدتها روسيا مع النظام!
وفي حال اعتماد قانون سيزر، في ضوء الوضع الإقليمي والمحلي للنظام، وضعف القوة الروسية، سيكون لذلك تأثير كبير بمستقبل النظام. العقوبات هذه لن يستطيع الأخير تفادي خطورتها، بل قد تكون لها مفاعيل كبيرة تغيّر من كل المعادلات التي حاولت روسيا تفاديها وتغييرها وخلق معطيات جديدة. روسيا ستكون أمام بنود اتفاق جنيف1 مجدّداً، فهل تعي إخفاق سياساتها، والكوارث التي أدخلت سورية فيها، وساهمت في تدميرها ومقتلة أهلها وتشريدهم؟ روسيا المخفقة هي عدو الشعب السوري، وهذا يدفعنا إلى القول إن مهزلة جلسات اللجنة الدستورية، وكل مسار أستانة وسوتشي يجب أن تشطب كلياً ليكون لروسيا أو لبقية الدول المتدخلة في سورية مبررات لوجودها في سورية.
التحليل أعلاه، يفرض على كل أشكال المعارضة السورية، أو الفاعلين ثقافياً وسياسياً، تلمّس الجديد العالمي هذا، ووضع النظام كذلك، والتحرّك مجدّداً في ضوء أهداف الثورة وجنيف1 وكل القرارات الدولية التي تساعد في انتقال سورية إلى بلدٍ ديموقراطي. فهل تعي تلك الأشكال حساسية المرحلة الجديدة، وتنسحب من "أستانة" واللجنة الدستورية، وأية وثائق عقدتها بإشراف الروس وحلفائهم، وتتمسّك مجدّداً بما ذكرنا.