15 سبتمبر 2023
الأردن.. الرّزاز والإصلاح المفقود
كلّ شيء في الأردن يسير نحو الدمقرطة، لكنها لا تأتي، وتتوقف في محطة غامضة. هناك رغبة جامعة في الإمساك بمفاصل السلطة لدى الحكومات لإثبات قوّتها، في مجتمع مؤهل، أكثر من أي وقت، لفك حجاب المنعة ضد مواجهتها، بفعل عوامل عدة، أهمها اتساع فجوة الثقة، والأخطاء المتراكمة، وارتقاع ثنائيتي الفقر والبطالة.
وسط واقع متعسّر، ويزداد تردّياً في الاقتصاد، ويرافق الحكومة دين عام مرتفع كظلّها، أجرت حكومة عمر الرزاز أخيرا تعديلها الرابع، بعد أقلّ من عام ونصف العام على تشكيلها، قلّب الرجل فيها وجوها كثيرة، بلغ عددها 52 وزيراً، منهم جُدد لأول مرة ومن محيطه القريب، ومنهم من هو مفروض عليه بحكم الجغرافيا والتمثيل من الشمال والجنوب والوسط وعقدة المكونات الأخرى من الشوام والفلسطينيين والشركس والبدو.. إلخ. إنه عنف الجغرافيا والهويات التي تطفو كل مرة، وليس شرطاً أن تقذف بالأفضل.
بين هذا الركام الذي تفرضه عقلية المحاصصة والتمثيل، كان مطلوبا من الرزاز، الرئيس القيادي الذي تعرفه المنظمات الدولية ويُمثل وجهاً جديداً في طبقة الحكم الأردني، والذي بشّر الشعب بحكومة نهضة وحياة جديدة وثقة مبنية على الإنجاز، وليس الثقة بالمفهوم التقليدي للثقة الذي شرحه ذات مساء لجمع من المثقفين الأردنيين، كان مطلوبا منه أن يقدّم صياغات عدّة، يفسر بها كيف نخرج عن توقيع طاعة الغير لأجل المشاركة، وكيف يخرج الأردن من أزمة مركّبة في الفساد، وكيف يمكن إنتاج قانون انتخاب يعيد سلطة التمثيل الحقيقية شعبياً للناس من دون مواربة، ومن دون عنف تمارسه الدولة عبر مؤسساتها الأيدولوجية، كما يرى الفرنسي لوي لتوسير (1918 - 1990).
تحدّث الرزاز "المصلح" مِراراً عن التغيير. وفي مجتمع ذي بنية صعبة، يطلب التحديث، ولكنه يقبل الطرق التقليدية في اختيار الوزراء وتعيين رؤساء الجامعات، ويرفض الفساد ويندّد به.
ولكنه مجتمع يختار ممثلين له في مجلس النواب بعد بيعهم الأصوات في الانتخابات. وهو مجتمع فيه أعلى نسب التعليم، لكن العشيرة، أحياناً أو غالباً، تتفق على إجماع مرشحيها، مهما بلغت قدراتهم أو قلّت، من حيث العلم والمعرفة.
اللافت في ضحايا تشكيل الحكومات وتغيراتها هم الطبقة المتعلمة القادمون من الجامعات والخبراء، ففي التعديلات المتوالية للحكومة برئاسة الرزاز، خرج عزمي محافظة ومحمد أبو رمان وجمانه غنيمات والفقيه العالم عبد الناصر أبو البصل والمهندس خالد الحنيفات، يشهد الجميع له بعمله وزيراً للزراعة، وكذلك الحال مع عادل الطويسي، ولاحقا وليد المعاني الذي كان وزيرا للتربية والتعليم، ثم استقال بسبب تجاهل آرائه في أزمة نقابة المعلمين.
في المقابل، يُبقى الرئيس على وزراء لا يتمتعون بشعبيةٍ أو أداء فارق، مثل وزير الداخلية سلامه حماد، الذي قمع المعلمين في أثناء اعتصامهم، كما يُبقى على وزراء عابرين للحكومات التي سبقت، من دون أدنى وضوح أو سبب في إبقائهم، وكل هذا يثير الالتباس بشأن الأسباب الحقيقية التي تدفع بهذا الوزير إلى البقاء أو تدفع ذلك إلى الخروج. ومع ذلك، لا تعدم الحكومة وزراء فاعلين وذوي خبرة، وتمكّنوا من إحداث فرق، مثل وزير الصحة سعد جابر، على الرغم من قدومه من المؤسسة العسكرية، ووليد المصري، الضليع في الحكم المحلي، ووزير الزراعة إبراهيم الشحاحدة، ومبارك أبو يامين الذي كشف عن قدرات تفاوضية كبيرة وصرامة شديدة في إدارة أزمة المعلمين.
وعَد الرزاز، في كل إطلالاته المتلفزة وخطاباته، بالتغيير الإيجابي، وتحسين مستوى الحياة. وللحق، هناك تحسّن في مستوى الرقابة على عمل المؤسسات الحكومية، وفي مؤشرات الخدمات في التعليم والصحة، حسب تقرير مركز مؤشر الأداء الأردني الذي صَدّر تقريره التحليلي أخيرا لتقرير التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي ومقره جنيف. وقارن التقرير بين المؤشرات الـ 12 على مدى العشرة أعوام الماضية من عام 2009 إلى 2019 ومقارنة عام 2019 بعام 2018. ولكن الأرقام والمؤشرات لا تكفي، فالذي ينتظره الأردنيون من الرزاز أكثر بكثير من قياس مؤشرات الأداء؛ فهم يريدون مكافحة جادة للفساد وحقيقية، ويريدون مشاريع عمل للشباب ومواجهة البطالة التي تقترب من 20%، وربما تزيد في محافظات الأطراف، ويريدون إدارة أزمات أفضل مما يحدث في كل أزمة، ويبغون إصلاحا سياسيا حقيقيا، وهو الإصلاح الذي تجنبت حكومة الرزاز الحديث عنه، أو عن أي فكرة جادة. وإلى هذا الأمر، لم تأتِ حزمة التشريعات والتعليمات الضريبية بعد عام بأي تحسّن ملموس على مالية الدولة. ولهذا، لجأت حكومة الرزاز أخيرا إلى إطلاق حزمة إجراءاتٍ في إطار خطى التحفيز الاقتصادي، وكان عنوانها الأبرز تحريك سوق العقار، وهذا الأمر على أهميته إلا أنه لا يخلق قاعدة صناعية أو أسواقا جديدة، بل يضاعف دخل المالية العامة من الرسوم.
فشل فريق الرزاز الاقتصادي، الذي خرج في التعديل منه رأسه الكبير، رجائي المعشر، الرجل
المُعمّر في خطط الإعمار والإصلاح الاقتصادي، وعز الدين كناكريه الرجل الذي لم يفقه المعنى السياسي لوزير المالية، ولم يتخل عن الصورة التقليدية لمحاسب الدولة ومسك الدفاتر المالية. كما أن كل ما حدث، بفعل أثر قانون الضريبة الجديد، لم يحسّن مالية الدولة. كما أن الفرق بدا شاسعاً بين محمد العسعس الذي تولى وزارة المالية في التعديل الرابع والمعشر وكناكريه، وكان العسعس يتبنّى رأياً واضحاً في مسألة الإصلاح المالي بعدم الخضوع لسياسات المؤسسات الدولية المانحة.
نعم فشلت حكومة الرزاز في اختيار الفريق الاقتصادي منذ البدايات، لكنه ينجح اليوم بإدخال وجوه جديدة، مثل باسم الطويسي وفارس البريزات وأمجد العضايلة ووسام الربضي، وجاء بوجوه لم تمارس العمل العام، مثل خالد سيف وزير أهم القطاعات (النقل). كما اعاد صاحب خبرة وطيدة، محيي الدين توق، وزيرا للتعليم العالي. وفي المقابل، يرى رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مصطفى الحمارنة، وتعليقاً على التعديل الرابع للرزاز، أنّ الظروف الموضوعية التي يمر بها الأردن يتمناها كل مناضل من أجل الديمقراطية، والمقصود بذلك كما يقول "لما كنّا جيل النضال والكفاح المسلح يقولون لنا لا توجد ظروف أحسن من ذلك الجو للنضال، في وجود احتلال ونكسة وتوابعها". ولكن في الحالة الأردنية الراهنة، يبدو أن الرزاز الذي حملته الجماهير عشية إخراج حكومة هاني الملقي في يونيو/حزيران 2018 يحتاج للتذكير دوماً بأن ما يطلبه الأردنيون من حكومته هو إحداث وتقديم طبقة سياسية جديدة، وإصلاح سياسي حقيقي لأجل ديمقراطية أفضل.
ما معنى عدم إنجاز ذلك من رئيس حكومة كان أملاً بالتغيير عند الشباب؟ لعلّ الرزاز أسير قوتين: قوة التقييد، وهي محبطة وقوية وراسخة، وتقيده باتجاه المحافظة على المكاسب والغنائم، وبمبرّرات الأمن والاستقرار، وقوة الدفع المُجدّدة التي ترمي كل مرة بوجه جديد أو وجهين، لكنهم في مواجهة القوى المقيدة غالباً ما يكونون أول الضحايا وحطباً لنار عسير عليها أن تعود أكثر وهجاً. وهناك من يرى أن الرزاز نفسه يحب تكريس نفسه وتغليب شخصية القائد، والتراجع عن العمل على سلطة الواجب الأخلاقي إلى سلطة القائد، وبالتالي الانتقال من السلطة الدستورية إلى التسلط، وعبر صداقات وعلاقات توطد تلك النزعة، في قلب رجلٍ يؤمن بالحداثة والحرية، وذلك كله بفعل مخاوف الرفاق وإحباطاتهم التي شهدها الرجل مبكراً ممن جاء بهم، أو يحسب أنهم يعملون ضده.
أخيراً، يواجه الرزاز تقلص الثقة الشعبية به وبحكومته مجتمعة، حسب كل استطلاعات الرأي، لكنه في المقابل يواجه ما هو أبعد من ذلك، فالناس تهمس، والصوت يعلو، والأزمات تصنع بأخطاء المؤسسات، والسقوف ترتفع نقداً، والقادم أصعب. وهذا كله ما يجعله أكثر تسلطاً وقلقاً، وأقل فعلاً.
بين هذا الركام الذي تفرضه عقلية المحاصصة والتمثيل، كان مطلوبا من الرزاز، الرئيس القيادي الذي تعرفه المنظمات الدولية ويُمثل وجهاً جديداً في طبقة الحكم الأردني، والذي بشّر الشعب بحكومة نهضة وحياة جديدة وثقة مبنية على الإنجاز، وليس الثقة بالمفهوم التقليدي للثقة الذي شرحه ذات مساء لجمع من المثقفين الأردنيين، كان مطلوبا منه أن يقدّم صياغات عدّة، يفسر بها كيف نخرج عن توقيع طاعة الغير لأجل المشاركة، وكيف يخرج الأردن من أزمة مركّبة في الفساد، وكيف يمكن إنتاج قانون انتخاب يعيد سلطة التمثيل الحقيقية شعبياً للناس من دون مواربة، ومن دون عنف تمارسه الدولة عبر مؤسساتها الأيدولوجية، كما يرى الفرنسي لوي لتوسير (1918 - 1990).
تحدّث الرزاز "المصلح" مِراراً عن التغيير. وفي مجتمع ذي بنية صعبة، يطلب التحديث، ولكنه يقبل الطرق التقليدية في اختيار الوزراء وتعيين رؤساء الجامعات، ويرفض الفساد ويندّد به.
اللافت في ضحايا تشكيل الحكومات وتغيراتها هم الطبقة المتعلمة القادمون من الجامعات والخبراء، ففي التعديلات المتوالية للحكومة برئاسة الرزاز، خرج عزمي محافظة ومحمد أبو رمان وجمانه غنيمات والفقيه العالم عبد الناصر أبو البصل والمهندس خالد الحنيفات، يشهد الجميع له بعمله وزيراً للزراعة، وكذلك الحال مع عادل الطويسي، ولاحقا وليد المعاني الذي كان وزيرا للتربية والتعليم، ثم استقال بسبب تجاهل آرائه في أزمة نقابة المعلمين.
في المقابل، يُبقى الرئيس على وزراء لا يتمتعون بشعبيةٍ أو أداء فارق، مثل وزير الداخلية سلامه حماد، الذي قمع المعلمين في أثناء اعتصامهم، كما يُبقى على وزراء عابرين للحكومات التي سبقت، من دون أدنى وضوح أو سبب في إبقائهم، وكل هذا يثير الالتباس بشأن الأسباب الحقيقية التي تدفع بهذا الوزير إلى البقاء أو تدفع ذلك إلى الخروج. ومع ذلك، لا تعدم الحكومة وزراء فاعلين وذوي خبرة، وتمكّنوا من إحداث فرق، مثل وزير الصحة سعد جابر، على الرغم من قدومه من المؤسسة العسكرية، ووليد المصري، الضليع في الحكم المحلي، ووزير الزراعة إبراهيم الشحاحدة، ومبارك أبو يامين الذي كشف عن قدرات تفاوضية كبيرة وصرامة شديدة في إدارة أزمة المعلمين.
وعَد الرزاز، في كل إطلالاته المتلفزة وخطاباته، بالتغيير الإيجابي، وتحسين مستوى الحياة. وللحق، هناك تحسّن في مستوى الرقابة على عمل المؤسسات الحكومية، وفي مؤشرات الخدمات في التعليم والصحة، حسب تقرير مركز مؤشر الأداء الأردني الذي صَدّر تقريره التحليلي أخيرا لتقرير التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي ومقره جنيف. وقارن التقرير بين المؤشرات الـ 12 على مدى العشرة أعوام الماضية من عام 2009 إلى 2019 ومقارنة عام 2019 بعام 2018. ولكن الأرقام والمؤشرات لا تكفي، فالذي ينتظره الأردنيون من الرزاز أكثر بكثير من قياس مؤشرات الأداء؛ فهم يريدون مكافحة جادة للفساد وحقيقية، ويريدون مشاريع عمل للشباب ومواجهة البطالة التي تقترب من 20%، وربما تزيد في محافظات الأطراف، ويريدون إدارة أزمات أفضل مما يحدث في كل أزمة، ويبغون إصلاحا سياسيا حقيقيا، وهو الإصلاح الذي تجنبت حكومة الرزاز الحديث عنه، أو عن أي فكرة جادة. وإلى هذا الأمر، لم تأتِ حزمة التشريعات والتعليمات الضريبية بعد عام بأي تحسّن ملموس على مالية الدولة. ولهذا، لجأت حكومة الرزاز أخيرا إلى إطلاق حزمة إجراءاتٍ في إطار خطى التحفيز الاقتصادي، وكان عنوانها الأبرز تحريك سوق العقار، وهذا الأمر على أهميته إلا أنه لا يخلق قاعدة صناعية أو أسواقا جديدة، بل يضاعف دخل المالية العامة من الرسوم.
فشل فريق الرزاز الاقتصادي، الذي خرج في التعديل منه رأسه الكبير، رجائي المعشر، الرجل
نعم فشلت حكومة الرزاز في اختيار الفريق الاقتصادي منذ البدايات، لكنه ينجح اليوم بإدخال وجوه جديدة، مثل باسم الطويسي وفارس البريزات وأمجد العضايلة ووسام الربضي، وجاء بوجوه لم تمارس العمل العام، مثل خالد سيف وزير أهم القطاعات (النقل). كما اعاد صاحب خبرة وطيدة، محيي الدين توق، وزيرا للتعليم العالي. وفي المقابل، يرى رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مصطفى الحمارنة، وتعليقاً على التعديل الرابع للرزاز، أنّ الظروف الموضوعية التي يمر بها الأردن يتمناها كل مناضل من أجل الديمقراطية، والمقصود بذلك كما يقول "لما كنّا جيل النضال والكفاح المسلح يقولون لنا لا توجد ظروف أحسن من ذلك الجو للنضال، في وجود احتلال ونكسة وتوابعها". ولكن في الحالة الأردنية الراهنة، يبدو أن الرزاز الذي حملته الجماهير عشية إخراج حكومة هاني الملقي في يونيو/حزيران 2018 يحتاج للتذكير دوماً بأن ما يطلبه الأردنيون من حكومته هو إحداث وتقديم طبقة سياسية جديدة، وإصلاح سياسي حقيقي لأجل ديمقراطية أفضل.
ما معنى عدم إنجاز ذلك من رئيس حكومة كان أملاً بالتغيير عند الشباب؟ لعلّ الرزاز أسير قوتين: قوة التقييد، وهي محبطة وقوية وراسخة، وتقيده باتجاه المحافظة على المكاسب والغنائم، وبمبرّرات الأمن والاستقرار، وقوة الدفع المُجدّدة التي ترمي كل مرة بوجه جديد أو وجهين، لكنهم في مواجهة القوى المقيدة غالباً ما يكونون أول الضحايا وحطباً لنار عسير عليها أن تعود أكثر وهجاً. وهناك من يرى أن الرزاز نفسه يحب تكريس نفسه وتغليب شخصية القائد، والتراجع عن العمل على سلطة الواجب الأخلاقي إلى سلطة القائد، وبالتالي الانتقال من السلطة الدستورية إلى التسلط، وعبر صداقات وعلاقات توطد تلك النزعة، في قلب رجلٍ يؤمن بالحداثة والحرية، وذلك كله بفعل مخاوف الرفاق وإحباطاتهم التي شهدها الرجل مبكراً ممن جاء بهم، أو يحسب أنهم يعملون ضده.
أخيراً، يواجه الرزاز تقلص الثقة الشعبية به وبحكومته مجتمعة، حسب كل استطلاعات الرأي، لكنه في المقابل يواجه ما هو أبعد من ذلك، فالناس تهمس، والصوت يعلو، والأزمات تصنع بأخطاء المؤسسات، والسقوف ترتفع نقداً، والقادم أصعب. وهذا كله ما يجعله أكثر تسلطاً وقلقاً، وأقل فعلاً.