31 أكتوبر 2024
الجزائر.. انتخابات إجبارية وثورة مختطفة
قبل اندلاع الثورة السودانية التي أطاحت نظام عمر البشير، بعد شهور من الاحتجاجات والاعتصامات التي لم تخل من دم، وسقوط قتلى ومصابين، وبعد مرور حوالي سبعة أشهر على الثورة الجزائرية الثانية التي بلغت أسبوعها التاسع والثلاثين، وفي ظل الثورتين اللتين انفجرتا في كل من العراق ولبنان، وطالبتا بحكم ديمقراطي خارج منطق المحاصصة الطائفية والمذهبية، وبالعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، ورحيل الطبقة السياسية المترهلة والمطعون فيها أخلاقياً، قبل ذلك كله، سبق لمجلة "فورين أفيرز" الأميركية ، في عددها نوفمبر/ تشرين الثاني – ديسمبر/ كانون الأول 2018، أن دقت جرس إنذار لحكام عرب، ووجهت إليهم رسائل صريحة وجريئة، أحاطتهم فيها علما بأن موجة ثانية من الربيع العربي آتية لا محالة، إذا لم يسارعوا إلى إبرام صفقة جديدة مع شعوبهم، على أساس المواطنة والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وكان حامل هذه الرسائل وزير الخارجية الأردني الأسبق، مروان المعشر، والذي شغل أيضا منصب سفير لبلاده في إسرائيل والولايات المتحدة، كما تولّى منصب وزير للإعلام، ما يعني أن هذا الدبلوماسي الذي يتوفر على مسار مركب، وتجربة غنية، يمتلك معطيات ومعلومات وعلاقات دفعته إلى كتابة مقالته في المجلة المعروفة، والتي اعتبر فيها أن المنطقة العربية شهدت عاصفتين في السنوات الأخيرة؛ الأولى سنة 2011 في ما سُمي الربيع العربي، وهي الانتفاضات التي زعزعت كراسي الحكام المستبدين في جميع أنحاء المنطقة،
ما توقّعته "فورين أفيرز" حصل بالفعل، لأنه لم يكن اعتباطيا أو مجرد تفكير مصادفات، بل بني على قراءة للواقع والوقائع، وأنماط الحكم وطبيعة الاختيارات والسياسات العمومية المتبعة في المنطقة العربية. وهكذا وجدنا أنفسنا فعلا أمام موجة جديدة من الثورات، أو الحراكات، التي اندلعت في سنة 2019، وطاولت حتى دولا تتوفر على ثروات نفطية ضخمة تدرّ مليارات الدولارات على الخزينة العامة، كما هو الشأن بالنسبة للجزائر والعراق.
مؤكّد أن الجزائر تعيش، منذ سنوات، أزمة متعدّدة الأبعاد، يتداخل فيها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والمؤسساتي. وكان يمكن أن تحدث تحولاتٍ في الأوضاع الداخلية للبلد، وفي نسق
الحكم ومنظومته، لكن المؤسسة العسكرية والأمنية أجهضت الإرهاصات الأولى للحراك الشعبي الجزائري الذي حاول الخروج عام 2011 لجسّ النبض وقياس ميزان القوى، لكن متاريس النظام ودعاماته من الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات الموالية له أجهضت المحاولة في المهد. وعلى الرغم من عائدات النفط التي أنعشت الخزينة العامة، وأشاعت جوّاً من الطمأنينة والارتياح سنوات معينة، فإن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية تزايدت بسرعة فائقة، وتعددت الاختلالات السياسية، خصوصا بعد إصرار المركب المصالحي، المكون من عدة مؤسسات، على ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، وهو في حالة صحية مزمنة، وفاقد من الناحيتين الطبية والعملية كل القدرات العقلية والجسمانية، وكل السلطات والصلاحيات. وهذا ما أجّج غضب الشعب الجزائري، وعجّل بإسقاط العهدة الخامسة، فتم اتخاذ تدابير لتفكيك مكونات النظام السابق، لجبر خواطر الشارع المنتفض، وإعطاء الانطباع بأن المؤسسة العسكرية حامية الاستقرار، وضامنة التحول الديمقراطي الجديد، ستصاحب الحراك الشعبي الجزائري بكيفيةٍ تمكّنه من تحقيق أهدافه كاملة، بما في ذلك تصفية تركة النظام السابق، وتوفير الشروط الملائمة لتنظيم انتخابات ديمقراطية في ظل قوانين جديدة. أي أن الشعب هو من سيقرّر مصيره ما دام هو مصدر الشرعية والسيادة. وقد تداول هذه اللازمة قائد أركان الجيش الجزائري، الجنرال أحمد قايد صالح، في معظم الخطب التي كان يلقيها في الثكنات العسكرية التي تحولت إلى منصات لإطلاق الرسائل وتوجيه التهديدات والتعليمات والاتهامات. ومفهوم أن الغرض من اختيار الثكنات العسكرية في مناسبات عدة لتمرير خطاباتٍ توجيهية عدم إلصاق تهمة التدخل المباشر للمؤسسة العسكرية في الشأن السياسي. وهذه المؤسسة هي التي ترعى اليوم الانتخابات الرئاسية، وتحرص على
تنظيمها في موعدها المحدد 12 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. ولم تتردد انسجاما مع الأجندة التي رسمتها لنفسها والهندسة السياسية التي تدافع عنها في دعوة الجزائريين إلى إنجاح الانتخابات الرئاسية التي وصفتها بـ"الموعد المصيري"، حسب ما جاء في بيان للقيادة العليا للجيش. ودعت هذه القيادة، بلغة صريحة، "المواطنين الغيورين على وطنهم إلى المساهمة إلى جانب قوات الجيش الشعبي الوطني، ومختلف المصالح الأمنية المجنّدة ليل نهار، وبيقظة كبيرة للوقوف صفا واحدا لإنجاح هذا الموعد المصيري في حياة ومستقبل البلاد ورفع التحدي الذي يعزّز مكانة وسمعة الجزائر". والمثير في البيان تعبير القيادة العليا للجيش عن مباركتها الهبة الشعبية، وتأكيد مرافقتها المطالب المشروعة للمواطنين في "تحقيق التغيير المنشود، وإنجاز الهدف الرئيسي للمطلب المتمثل في تنظيم انتخابات رئاسية في إطار الشرعية الدستورية، واحترام مؤسسات الدولة واسترجاع الأمل في نفوس الجزائريين لغد أفضل، كما أراده الشهداء الأبرار".
وتُبين كل المؤشرات أن المؤسسة العسكرية حسمت الأمر، وقررت إنجاح الانتخابات الرئاسية، مهما كانت الظروف والملابسات والسياقات، مع اقتناعها القطعي بأن الحراك، على الرغم من قوته التعبوية، لا يشكل مطلقا قوة مهيمنة ومؤثرة، حتى يكون في مقدوره وقف المسار الانتخابي. ومن هذا المنطلق، وإن تسبب في بعض الاضطرابات، فإن هذا المسار لن يمثل خطرا كبيرا يمكن أن يجهض ما عقدت عليه العزم مكونات المنظومة الجديدة – القديمة. في المقابل، يعتبر الشارع المنتفض أن هذه الانتخابات لا تعدو أن تكون مسرحية متقنة الإخراج، ولن تجيب عن انتظاراته وتطلعاته، لأنها إجبارية، جاءت لتختطف ثورة شعبية، غيرت، على مدى شهور، حقائق على الأرض، وأفرزت ديناميةً سياسيةً غير مسبوقة في تاريخ الجزائر، نظر إليها، داخليا وخارجيا، على أنها تشكل قطيعة جذرية، مع رموز النظام السابق وممارساته واختياراته. وإذا كانت هذه هي قناعة مكونات الحراك الشعبي في الجزائر، والتي تعتبر، من حيث المبدأ، أنه ليس هناك خلاف في الجوهر حول دور العملية الانتخابية وأهميتها، لأنها مقتنعة بأن الانتخابات تشكل المدخل الفعلي للديمقراطية التي تمكّن الشعب من اختيار ممثليه بكل حرية، فإن الأجهزة الرئيسة للنظام استنفرت جهودها وإمكاناتها، وأرادت أن تقول، من خلال ذلك، لنشطاء الحراك، إن الآلة تحرّكت إداريا وإعلاميا، وانطلقت منذ مدة، وهي غير مستعدة للتوقف إلى غاية إنجاز كل ما سطّرته المؤسسة العسكرية. وهذا ما جاء ضمنيا على لسان مرشحها المفضل، وأحد وجوه نظام بوتفليقة، عبد المجيد تبون الذي شدّد على أن الانتخابات الرئاسية ستنظم مهما كانت الظروف، ما يعني أنه سواء ظل الحراك قويا أو تراجعت قوته فإن المهمة التي كلفته بها المؤسسة العسكرية لا يجب أن تحيد عن هدفها، أو تنحرف عن المسار الذي رسم لها.
مؤكّد أن الجزائر تعيش، منذ سنوات، أزمة متعدّدة الأبعاد، يتداخل فيها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والمؤسساتي. وكان يمكن أن تحدث تحولاتٍ في الأوضاع الداخلية للبلد، وفي نسق
وتُبين كل المؤشرات أن المؤسسة العسكرية حسمت الأمر، وقررت إنجاح الانتخابات الرئاسية، مهما كانت الظروف والملابسات والسياقات، مع اقتناعها القطعي بأن الحراك، على الرغم من قوته التعبوية، لا يشكل مطلقا قوة مهيمنة ومؤثرة، حتى يكون في مقدوره وقف المسار الانتخابي. ومن هذا المنطلق، وإن تسبب في بعض الاضطرابات، فإن هذا المسار لن يمثل خطرا كبيرا يمكن أن يجهض ما عقدت عليه العزم مكونات المنظومة الجديدة – القديمة. في المقابل، يعتبر الشارع المنتفض أن هذه الانتخابات لا تعدو أن تكون مسرحية متقنة الإخراج، ولن تجيب عن انتظاراته وتطلعاته، لأنها إجبارية، جاءت لتختطف ثورة شعبية، غيرت، على مدى شهور، حقائق على الأرض، وأفرزت ديناميةً سياسيةً غير مسبوقة في تاريخ الجزائر، نظر إليها، داخليا وخارجيا، على أنها تشكل قطيعة جذرية، مع رموز النظام السابق وممارساته واختياراته. وإذا كانت هذه هي قناعة مكونات الحراك الشعبي في الجزائر، والتي تعتبر، من حيث المبدأ، أنه ليس هناك خلاف في الجوهر حول دور العملية الانتخابية وأهميتها، لأنها مقتنعة بأن الانتخابات تشكل المدخل الفعلي للديمقراطية التي تمكّن الشعب من اختيار ممثليه بكل حرية، فإن الأجهزة الرئيسة للنظام استنفرت جهودها وإمكاناتها، وأرادت أن تقول، من خلال ذلك، لنشطاء الحراك، إن الآلة تحرّكت إداريا وإعلاميا، وانطلقت منذ مدة، وهي غير مستعدة للتوقف إلى غاية إنجاز كل ما سطّرته المؤسسة العسكرية. وهذا ما جاء ضمنيا على لسان مرشحها المفضل، وأحد وجوه نظام بوتفليقة، عبد المجيد تبون الذي شدّد على أن الانتخابات الرئاسية ستنظم مهما كانت الظروف، ما يعني أنه سواء ظل الحراك قويا أو تراجعت قوته فإن المهمة التي كلفته بها المؤسسة العسكرية لا يجب أن تحيد عن هدفها، أو تنحرف عن المسار الذي رسم لها.