27 سبتمبر 2024
هل يريد متظاهرو العراق إسقاط الدولة؟
مثل كل الثورات والانتفاضات، فاجأت ثورة العراق هذه المرّة العراقيين والعرب، كما بقية الثورات التي بدأت، منذ عام 2011، بقوة مطالبها الشرعية الأساسية لحياة كريمة للبشر، طال انتظارها منذ عقد ونصف العقد من دون جدوى، وللإصرار الذي أبداه الشباب على انتزاع حقوقهم بأي ثمن، حتى لو تطلب ذلك التضحية بحياتهم. وقد أظهرت فيديوهات شبابا يقسمون بقوة وإصرار على الاستمرار بالتظاهر، ومواجهة حكومة المنطقة الخضراء سلميا، في قولهم إما نحن أو هم، وآخرين يقدّمون صدورهم عارية للقناصة، ولأسلحة القوات العسكرية والمليشيات متحدّين الموت.
وبعد أن واجهت حكومة عادل عبد المهدي هذه التظاهرات بالإطلاق الحي للرصاص والمياه الساخنة والقنابل المسيلة للدموع، مستعملة حتى قذائف آر بي جي المستخدمة في الحروب، قتلت أكثر من مائه شاب (إحصائية رسمية) وأكثر من أربعمائه (مصادر إعلامية عراقية مستقل)، بعد ذلك، خرج رئيس الوزراء بخطابٍ طويل، لا يتناسب إطلاقا مع ما يعيشه العراق وشعبه من غضب وقهر وسخط على عدم أداء الحكومة واجباتها في توفير أبسط الخدمات، كما الحكومات السابقة التي تعد وتعد من دون تنفيذ أي من وعودها، مستهلا كلامه بأن العراق اليوم بين خياري الدولة واللادولة، في إشارة الى التظاهرات السلمية التي قمعت بأوامر منه، بوصفه القائد العام للقوات المسلحة. بعد ذلك، شكر عبد المهدي مختلف القوات التي شاركت بقمع المظاهرات وقتل المتظاهرين، وساوى، مع سبق الإصرار، بين القاتل والمقتول. وبهذا العدد-الذي يسقط في حروب، وليس في تظاهرات سلمية، هل ما جرى فعلا من تظاهرات هو لفرض حالة اللادولة؟
تثبت الحقائق العنيدة أن ما يقوم به رئيس الوزراء هو ما يتعارَض مع كيان الدولة ودستورها، وليس الشباب المتظاهر بالآلاف سلميا، فقد خرج هؤلاء في تظاهراتٍ يقرّها الدستور، تطالب بالخدمات الأساسية الملحّة للحياة، بينما يصفهم عبد المهدي بمن يريد الفوضى ويقف ضد النظام. لقد تم تعيين رئيس الوزراء بتوافق بعض الكتل ومن دون انتخاب. وبعد عام على تعيينه، لم تكتمل بعد وزارات حكومته التي تتجاذبها الكتل والمساومات والبيع والشراء، حيث يتناقل نواب برلمانه أسعار الوزارات ومناصب المحافظات علنا؟ فهل تحترم هذه الممارسات الدولة التي يتهم المتظاهرين السلميين بتهديد وجودها؟
أما المثل الأكثر فضيحة، وكشفت عنه التظاهرات فهو ادعاء رئيس الوزراء عدم معرفة من قتل المتظاهرين قنصا بقوله إن هناك طرفا ثالثا؟ هذا النفي هو تأكيد لمعرفة القتلة، وهو تهرّب من
تحمّل مسؤولية إعطاء الأوامر بالقمع والقتل، وإخفاء هوية الطرف الثالث، والتستر عليه، وهو تصرّف لا يتوافق مع المنصب، ولا مع الدستور والدولة. لقد شاهد المتظاهرون المليشيات التابعة للحرس الإيراني، والتقطوا صورا لهم، وعثروا على جوازات سفر في مكان التظاهر، وكلم بعضهم قناصيهم، وتكلم بعض هؤلاء بالفارسية. وصور آخرون الطلقات المستخدمة ضدهم من صنع إيراني، لتكون كل هذه العناصر أدلةً تُدان بها الحكومة. كما أن الدستور الذي يدّعي عبد المهدي الدفاع عنه، ووفق المادة التاسعة، يحظر وجود المليشيات، فكيف بمليشيات دولة أجنبية تقتل كما تشاء أبناء البلد؟ أين هي الدولة التي تخاف عليها من أبناء الشعب المسالم المظلوم الذين تطلق عليهم قناصي إيران ليردوهم قتلى؟ أليس وجود مليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني تقويضا لسيادة العراق والدولة؟
ليس رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، وحده الذي لا تنسجم أعماله مع مفهوم الدولة، كما تحقق للعراقيين خلال هذه الأحداث، فرئيس الجمهورية، برهم صالح، خطب في المناسبة، ووصف التظاهرات بالسلمية، وهدّد الخارجين على القانون بالانصياع له، وعكسه سيتم اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في مثل هذه الحالات. أما رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، فقد خطب بإسهاب، مغدقا الوعود والمقترحات هنا وهناك، حتى بدت، بشكل صارخ، ضحكا على العقول، بعدها استقبل من سماهم ممثلي المتظاهرين لمعرفة مطالبهم، والحديث معهم، ليظهر أن المدعوين لم يكونوا من المتظاهرين، بل "كومبارس" لمشهدٍ يُراد تسويقه، بهدف امتصاص غضب االاحتجاجات. أما رئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض، فقد اعتبر التظاهرات مؤامرة، والمتظاهرين مجموعة متآمرين على طبقةٍ سياسيةٍ، قدمت التضحيات والدماء، ما يدل على وجود عدة خطاباتٍ في الحكومة، تتناقض فيما بينها، يجمعها تدمير العراق، ويثبت التجاهل الكامل لمعنى الدولة!
أما الخطاب الثاني لرئيس الوزراء فقد هدف إلى استعادة هيبة المرجعية، التي مرّغها شباب التظاهرات، وحمّلوها أيضا مسؤولية أوضاع العراق، بل وإعطائها دورا لم ينصّ عليه الدستور، حينما صرّح فيه عن إنشاء لجنة تحقيق بتوصيةٍ من المرجعية لكشف قتلة المتظاهرين، فما دخل المرجعية بلجنة التحقيق التي هي من عمل الحكومة واختصاصها؟
الشباب المتظاهر سلميا هو من خرج يطالب بالدولة ودولة ذات سيادة، وليس بعملية سياسية
عمرها ستة عشر عاما، راكمت الفساد وتدمير العراق في كل مفاصله، ونهب ثرواته، وقتل أبنائه، ونشر الفتنة الطائفية، وفسح المجال للتدخل الأجنبي. لم يكن هؤلاء الشباب متفائلين بحكومة عبد المهدي، لأن 80%، وربما أكثر، من العراقيين لم يذهبوا إلى الانتخابات في مايو/ أيار 2018، لكنهم أمهلوا حكومة عبد المهدي الذي عيّن ولم ينتخب، ونسجت عن الرجل دعاية تصفه بأنه مواكب عصر التكنولوجيا الحديثة وخبير اقتصادي. ثم ليتأكد الجميع، وبعد بضعة أيام من تسلمه رئاسة الوزراء، كذب الدعاية وعدم الالتزام بالوعود، بل شاهد الضعف والخضوع التام للمليشيات، وحيتان الكتل في تشكيل وزارته، حتى إنه لم يتمكّن من إكمال نصابها إلى يومنا هذا. وكان لمشهد قمع تظاهرات خرّيجي الجامعات، ورشّهم بالماء الساخن، والاعتداء على النساء، ورفع العشوائيات، وقعه الكبير في نفوس عامة الشعب العراقي الذي يشهد مزيدا من الظلم من دون تحقيق أي وعد بالإصلاح ومكافحة الفساد. وجاء نقل قائد قوات مكافحة الإرهاب الذي شارك في معارك الموصل، الفريق الركن، عبد الوهاب الساعدي، إلى وظيفة خدمية في وزارة الدفاع، على الرغم من شعبيته بين الناس، وخصوصا في الموصل، حيث كان قريبا من الأهالي، ومن معاناتهم. ورفضت السلطات الحكومية نصب تمثال له، فحصلت مواجهة بين المليشيات الطائفية التابعة للحرس الإيراني وأبناء المدينة، ثم لينفجر غضب غير مسبوق، تختزنه صدور العراقيين الذين تيقنوا بشكل تام من عقم العملية السياسية وطبقتها الفاسدة، وارتباطها التام بالقرار الإيراني، وحرسه الثوري الذي يتزايد نفوذه بشكل كبير في كل مرافق الدولة ومراكز قرارها، وفي مختلف المدن العراقية، وتستحوذ على العراق، فتحول غضب الناس ونقمتهم، بسبب انعدام الخدمات وسبل الحياة، إلى قضية تحرّر وطني، وإلى أشواق إلى انعتاق العراق والعراقيين من قبضة حكومةٍ همها الأول فرهدة (سرقة) العراق، كما قال أحد المتظاهرين بحرقة، وفتح آخرون صدورهم قهرا يصرخون، "نريد استرجاع العراق" و"نريد استرجاع وطننا" و"فرهدوا وطننا" و"إيران برّة برة.. بغداد تبقى حرّة".
كانت الانتفاضة الرد الطبيعي على حكم اللادولة، والعملية السياسية، وحكومة عادل عبد المهدي والحكومات التي سبقتها خلال ستة عشر عاما، حكومة بعد حكومة أثخنت العراق والعراقيين بالجراح. واليوم، أزفت هذه اللحظة التاريخية للانتفاض، وانتزاع الحقوق، واسترجاع الأرض من المحتلين وأدواتهم السياسية واستعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية. لن يستعيد العراق نفسه إلا باستمرار هذه الانتفاضة، وتحقيق أهدافها كاملة، وهي من المعارك الكبرى التي خاضتها شعوبٌ كثيرة، لتتمكّن من كسر قيودها والتخلص من جلاديها.. شباب العراق عازم بإرادة قوية وتضحية على السير في طريق الحرية، غير عابئ بالتضحيات من أجل الخلاص.
تثبت الحقائق العنيدة أن ما يقوم به رئيس الوزراء هو ما يتعارَض مع كيان الدولة ودستورها، وليس الشباب المتظاهر بالآلاف سلميا، فقد خرج هؤلاء في تظاهراتٍ يقرّها الدستور، تطالب بالخدمات الأساسية الملحّة للحياة، بينما يصفهم عبد المهدي بمن يريد الفوضى ويقف ضد النظام. لقد تم تعيين رئيس الوزراء بتوافق بعض الكتل ومن دون انتخاب. وبعد عام على تعيينه، لم تكتمل بعد وزارات حكومته التي تتجاذبها الكتل والمساومات والبيع والشراء، حيث يتناقل نواب برلمانه أسعار الوزارات ومناصب المحافظات علنا؟ فهل تحترم هذه الممارسات الدولة التي يتهم المتظاهرين السلميين بتهديد وجودها؟
أما المثل الأكثر فضيحة، وكشفت عنه التظاهرات فهو ادعاء رئيس الوزراء عدم معرفة من قتل المتظاهرين قنصا بقوله إن هناك طرفا ثالثا؟ هذا النفي هو تأكيد لمعرفة القتلة، وهو تهرّب من
ليس رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، وحده الذي لا تنسجم أعماله مع مفهوم الدولة، كما تحقق للعراقيين خلال هذه الأحداث، فرئيس الجمهورية، برهم صالح، خطب في المناسبة، ووصف التظاهرات بالسلمية، وهدّد الخارجين على القانون بالانصياع له، وعكسه سيتم اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في مثل هذه الحالات. أما رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، فقد خطب بإسهاب، مغدقا الوعود والمقترحات هنا وهناك، حتى بدت، بشكل صارخ، ضحكا على العقول، بعدها استقبل من سماهم ممثلي المتظاهرين لمعرفة مطالبهم، والحديث معهم، ليظهر أن المدعوين لم يكونوا من المتظاهرين، بل "كومبارس" لمشهدٍ يُراد تسويقه، بهدف امتصاص غضب االاحتجاجات. أما رئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض، فقد اعتبر التظاهرات مؤامرة، والمتظاهرين مجموعة متآمرين على طبقةٍ سياسيةٍ، قدمت التضحيات والدماء، ما يدل على وجود عدة خطاباتٍ في الحكومة، تتناقض فيما بينها، يجمعها تدمير العراق، ويثبت التجاهل الكامل لمعنى الدولة!
أما الخطاب الثاني لرئيس الوزراء فقد هدف إلى استعادة هيبة المرجعية، التي مرّغها شباب التظاهرات، وحمّلوها أيضا مسؤولية أوضاع العراق، بل وإعطائها دورا لم ينصّ عليه الدستور، حينما صرّح فيه عن إنشاء لجنة تحقيق بتوصيةٍ من المرجعية لكشف قتلة المتظاهرين، فما دخل المرجعية بلجنة التحقيق التي هي من عمل الحكومة واختصاصها؟
الشباب المتظاهر سلميا هو من خرج يطالب بالدولة ودولة ذات سيادة، وليس بعملية سياسية
كانت الانتفاضة الرد الطبيعي على حكم اللادولة، والعملية السياسية، وحكومة عادل عبد المهدي والحكومات التي سبقتها خلال ستة عشر عاما، حكومة بعد حكومة أثخنت العراق والعراقيين بالجراح. واليوم، أزفت هذه اللحظة التاريخية للانتفاض، وانتزاع الحقوق، واسترجاع الأرض من المحتلين وأدواتهم السياسية واستعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية. لن يستعيد العراق نفسه إلا باستمرار هذه الانتفاضة، وتحقيق أهدافها كاملة، وهي من المعارك الكبرى التي خاضتها شعوبٌ كثيرة، لتتمكّن من كسر قيودها والتخلص من جلاديها.. شباب العراق عازم بإرادة قوية وتضحية على السير في طريق الحرية، غير عابئ بالتضحيات من أجل الخلاص.
مقالات أخرى
02 سبتمبر 2024
16 اغسطس 2024
25 يونيو 2024