مقدونيا على مفترق طرق.. واستفتاء مرتقب

26 سبتمبر 2018

مسيرة لدعم "نعم" بالاستفتاء في عاصمة مقدونيا (16/9/2018/فرانس برس)

+ الخط -
صادقت حكومة مقدونيا، على اتفاقية تاريخية مع اليونان، في 17 يونيو/ حزيران الماضي، لطيّ صفحة من الخلاف، طال نحو سبع عشرة سنة، توافق فيه مقدونيا على تغيير اسم الجمهورية، وما يترتّب على ذلك من تعديل بعض بنود الدستور. وكانت دولتان من أعضاء المنظومة الأوروبية، بلغاريا واليونان، وقفتا حجر عثرة أمام انضمام مقدونيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، سنوات طويلة، ما تعذّر انضمام مقدونيا إليهما. وقد أبرم رئيس الوزراء، زوران زايف، اتفاقية حسن جوار مع بلغاريا في العام 2017، وأنهى الخلاف مع صوفيا، لكن الموقف اليوناني، حكومة وشعبًا، هو الأصعب والأكثر حساسية، فهناك إقليم كبير في شمال اليونان يحمل مسمّى مقدونيا، وتخشى اليونان أن تطالب جمهورية مقدونيا المعاصرة يومًا به، باعتباره ضمن سيادتها التاريخية. وذلك فيما يحمل مطار سالونيك في اليونان مسمّى مقدونيا، ما قد يجعل السائح في حيرة من أمره إذا هبط في اليونان أو مقدونيا، ما أثّر سلبيًا على مشاريع السياحة، وليس مستغرباً أن يطالب عمدة بلدية سالونيك، يانيس بوتاريس، بتغيير اسم المطار، لأنّه أحدث كثيراً من الخلاف في إقليم البلقان.

اتفاقية بريسبا
تعتبر الهوية المقدونية البحتة والمطلقة متجذّرة لدى شعبها، تمتدّ إلى آلاف السنين، ويبدو التخلّي عن تسمية البلاد "جمهورية مقدونيا" من دون أيّة إضافات ومؤشرات تعريفية، جغرافية أو تاريخية، أمراً لا يقبل النقاش إلى وقتٍ قريب. وقد اضطرّ عشراتُ آلافٍ من المواطنين المقدونيين للتقدّم والحصول على الجنسية البلغارية، خلال العقد الأخير، للتمكّن من السفر إلى دول الغرب الثري، للعمل والحياة.
وقد تمكّن زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي المقدوني، زوران زايف، من الفوز بالانتخابات البرلمانية عام 2016، بعد مواجهة عنيفة مع الحزب المعارض (المنظمة 
المقدونية الثورية العظمى VMRO - DPMNE)، إضافة إلى موقف الرئيس غورغي إيفانوف الرافض قطعيًا أيّ تلاعب أو عبثٍ بمسمّى البلاد، ما أدّى لاحقًا إلى أن يقاطعه رؤساء وزعماء دول الجوار والقادة الأوروبيون. وبهذا، تبنّى زايف سياسة جديدة وخضع للضغوط الأوروبية، الراغبة بتسوية الصراع والخلاف التاريخي مع جمهورية اليونان، الرافضة إبقاء تسمية البلاد الحالية، كما إنّ اليونان تعتبر مقدونيا التاريخية جزءًا من تراثها العريق، ويمتد الخلاف كذلك إلى جنسية الأبطال القوميين وقوميتهم، ومنهم الإسكندر المقدوني. وبعد مفاوضات طويلة امتدّت نحو عامين، بالتزامن مع رفض مسمّيات جديدة للجمهورية، توصّل الطرفان إلى اتفاق مشترك لإطلاق اسم جمهورية مقدونيا الشمالية على البلاد. لتصادق اليونان لاحقًا على ترشّح الدولة الشابّة لعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي. وفي احتفالٍ رسميّ أقيمت مراسيمه على شاطئ بحيرة بريسبا فوق الأراضي اليونانية، صادق على الاتفاقية وزيرا خارجية مقدونيا واليونان نيكولا ديميتروف ونيكوس كوسياس، بحضور رئيس الوزراء المقدوني زوران زايف ونظيره اليوناني ألكسيس تسيبراس، ليضعا بذلك حدًا للخلاف الذي دام نحو 27 سنة. وحضر مراسم توقيع الاتفاقية ماثيو نيميتز مبعوث الأمين العام الخاص للأمم المتحدة، روزماري ديكارلو وكيل الأمين العام للمنظمة الدولية للشؤون السياسية، فيديريكا موغريني مفوضة الأمن والسياسة الخارجية للمنظومة الأوروبية، ومفوض سياسة الجوار ومفاوضات توسّع الاتحاد الأوروبي يوهانيس هان.
وتعد اتفاقية تغيير اسم جمهورية مقدونيا بمنزلة ضوء أخضر لبدء مفاوضات الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، مع أنّ بعض دول الجوار أبدت تحفظًا بشأن التسمية الجديدة، لكنّ هناك توافقاً على المسمّى الجديد، لإرضاء الطرف الرسمي اليوناني، من دون الشعبي، في البلدين، الرافضين الاعتراف أو التنازل.
وقد تعرّض رئيس الوزراء المقدوني، زوران زايف، وما يزال لحملة شرسة من معارضيه، بزعامة الحزب المعارض في البلاد، ومن الرئيس أيضًا، الذي أعرب عن عدم مصادقته على الاتفاقية بأيّ حال، وكان قد أساء استقبال رئيس الوزراء، في اللقاء الرسمي الذي جمعهما، وأخبره زايف فيه بمصادقة حكومته على الاتفاقية، ليطرده الرئيس بعد دقائق من بدء الاجتماع. وليس متوقّعا أن تهدأ الأجواء، وينخفض معدّل التوتّر في هذا الإقليم العصيّ على الاستقرار فترات زمنية طويلة.

استفتاء تغيير اسم الجمهورية
صادق البرلمان المقدوني على عقد استفتاء شعبي ينتظم في 30 سبتمبر/ أيلول الحالي، للتصويت على الاتفاقية مع اليونان، وسؤال الاستفتاء: هل توافقون على عضوية حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وقبول فحوى الاتفاقية المبرمة مع جمهورية اليونان؟ وصرح الرئيس غورغي إيفانوف قبل أيام إنّه شارك في الاستفتاء الوطني التأسيسي الشرعي الوحيد في 8 سبتمبر/ أيلول 1991، لإعلان استقلال مقدونيا، ولن يشارك في الاستفتاء الجديد الذي سيعبث باستقلالية البلاد وهويتها ولغتها الرسمية، علمًا أنّ دولاً قليلة اعترفت بمسمّى جمهورية مقدونيا، وأبقي على تسمية "جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة" لدى الهيئات الدولية.
الحافز الوحيد الذي يشجّع فئات الشعب المقدوني لدعم الاستفتاء هو تمكّنهم، خلال السنوات القليلة المقبلة، من التنقّل والعمل فوق الأراضي الأوروبية بحريّة، عدا عن صناديق الدعم 
الأوروبي، والذي سيمنح حكومة زايف مقدّراتٍ كثيرة لتحسين البنى التحتية للبلاد. وقد حشدت الحكومة المقدونية، بزعامة زوران زايف، جهوداً كثيرة لنجاح الاستفتاء، والعبور إلى مرحلة جديدة من تاريخ البلاد المعاصر. وصرح رئيس الوزراء، زوران زايف، في شهر يونيو/ حزيران الماضي بأنّه سيقدّم استقالته حال فشل الاستفتاء، وتوقّع أن يصوّت نحو 80% لصالحه، لأنّ غالبية الشعب المقدوني يرغبون بالانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وأفاد أيضًا بأنّ المستشارين القانونيين يبحثون عن بدائل، حال رفض الرئيس إيفانوف المصادقة على قرار تعديل اسم البلاد لاحقًا.
وتفيد بيانات مركز استطلاعات الرأي المقدوني بأنّ قرابة 41.5% من فئات الشعب المقدوني سيصوّتون لصالح السؤال الوارد في مشروع الاستفتاء، وسيصوّت قرابة 35.1% ضده. ومن المتوقع كذلك أن يتحفّظ نحو 9.2% على هذا السؤال. وبهذا يتوقّع المركز نجاح مشروع الاستفتاء بنسبة 66.4%. ويتحدث الخبراء عن الدعم شبه الكامل للأقلية الألبانية الموجودة في البلاد لمشروع الاستفتاء، وتراجع نسبة المؤيّدين له بين فئات الإثنية المقدونية، أمّا قرابة 27% فلم يحسموا أمرهم بعد بهذا الشأن.

مصادقة ثلثي البرلمان
ويتطلب تمرير مشروع الاستفتاء الشعبي الذي سيؤدّي إلى تعديل دستور البلاد التأسيسي، وتغيير اسم الجمهورية وإتمام التبعات الإدارية المرتبطة بهذه الخطوة، تصويت ثلثي أعضاء البرلمان المقدوني. وتفيد المصادر ومراكز الدراسات الاستراتيجية إلى إمكانية تحقيق هذا الهدف، لأنّ لحكومة زايف 67 نائبًا في البرلمان المقدوني (120 عضوًا)، وسيصوّت لصالح المشروع خمسة نواب آخرون من أصول ألبانية، وبهذا يصبح عدد النواب الداعمين هذا المخطّط 72. وقد قال رئيس الوزراء، زوران زايف، مرات، إنّ حكومته قادرة على اجتذاب وإقناع ثمانية نواب آخرين من الأحزاب اليمينية المعارضة للاصطفاف إلى جانبه، وتمرير المشروع لتعديل اسم الجمهورية.
على الرغم من مخاوف معظم قادة الدول الغربية، وإدارة الولايات المتحدة الأميركية، من إمكانيات تأثير موسكو المباشر على الرأي العام المقدوني، وممارسة الضغوط بين أوساط البرلمان المقدوني، سيبقى مستقبل البلاد ومستقبل حكومة زوران زايف رهن نتائج هذا الحدث المهم في إقليم البلقان الأحد المقبل (30 سبتمبر).

وزير الدفاع الأميركي في مقدونيا
قام وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، بزيارة خاصّة لمقدونيا في 17 سبتمبر/ أيلول الحالي، اعتبرت تاريخية، وأظهرت الاهتمام الأميركي الواضح بالتوجهات المقدونية السياسية، المتمثلة بالانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، المرهون، في نهاية المطاف، بنتائج الاستفتاء الشعبي المقبل للمصادقة على تعديل اسم الجمهورية. وقد اجتمع الوزير الأميركي مع القادة السياسيين في العاصمة المقدونية سكوبي، الرئيس غورغي إيفانوف، رئيس الوزراء 
زوران زايف، وزيرة الدفاع رادميلا شكرينسكا. وجاء اجتماع وزير الدفاع الأميركي مع الرئيس المقدوني خطوة جريئة ومهمة للغاية، لرفض قادة أوروبيين لقاءه، بسبب معارضته تعديل اسم البلاد، والتخلي عن مسمّاها التاريخي، إلا أنه عبّر عن أهمية انضمام بلاده لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، ما يعتبر تحوّلًا ملحوظًا في موقفه الرافض لتوجّهات رئيس الوزراء زوران زايف. وقال إنّ بلاده ستبقى حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة الأميركية، وستبقي على التعاون معها في مجال الأمن والاستقرار ودعم الحريات والنهج الديمقراطي ومحاربة الإرهاب والمخاطر والتحدّيات على المستوى العالمي. وأفاد الرئيس إيفانوف بأنّ أميركا قدّمت دعمًا استراتيجيًا ماليًا وتقنيًا لرفع مستوى القدرات الدفاعية المقدونية، وأكّد على أهمية استمرار التدريبات الميدانية المشتركة بين الطرفين. وقال إنّ المهنية العالية واستعدادات الجيش المقدوني تثبت أنّ مقدونيا شريك واعد لحلف الناتو، قادر على العطاء في كل مهمات الحلف وبعثاته الخارجية، لكنّه مع ذلك، أعلن بعد أيام مجدّدًا رفضه القاطع مشروع الاستفتاء وتغيير اسم البلاد.

الموقف الأميركي
ذكّر الوزير الأميركي، جيمس ماتيس، بذكرى الاستفتاء التاريخي الذي أثمر عن قيام الدولة المقدونية المستقلة، وصوّت لصالحه قرابة 95% من الشعب المقدوني عام 1991. وأشار إلى ضرورة تمكين الشعب المقدوني من التمتّع بحقّه الديمقراطي والدستوري، والمشاركة في الاستفتاء المقبل بشأن تعديل اسم البلاد، الأمر الذي سيمهّد الطريق للانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وأشاد بالاتفاقية المقدونية اليونانية لحلّ النزاع، والمضيّ في طريق الاندماج في حلف الناتو ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، معتبرًا هذا الاتفاق الذي أنجزه رئيس الوزراء، زوران زايف، في منتهى الأهمية، بشأن تقدّم البلاد وخروجها من عزلتها الإقليمية. ومن جانبه، قال رئيس الوزراء المقدوني إنّ زيارة وزير الدفاع الأميركي بلاده، بمنزلة احتفال وعيد وطني، ما يشير إلى الاهتمام الأميركي بمستقبل مقدونيا.
وقد شدد الوزير الأميركي، في لقائه مع رئيس الوزراء، على ضرورة منح الفرصة للشعب المقدوني، والعمل بحرية تامّة بعيدًا عن أيّ ضغوط خارجية، لممارسة حقّه الديمقراطي بالتصويت. وقال إنّ روسيا الاتحادية تحاول جاهدة التأثير على الرأي العام المقدوني لإفشال هذا الاستفتاء، والحيلولة دون انضمام مقدونيا لحلف الناتو. وأفاد زايف إنّ بلاده لا ترغب بأيّ تصادم مع الفيدرالية الروسية، وإنّ روسيا تدعم توجّهات مقدونيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، لكنّها ترفض انضمامها لحلف الناتو، ولا تخفي موسكو هذا الموقف الذي أعربت عنه في أكثر من مناسبة، غير أنها أنكرت مرارًا الاتهامات التي أطلقها الغرب ضدّها، وفي مقدمتها محاولات التدخّل في عملية الاستفتاء المقرّرة في مقدونيا. وقال السكرتير العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، إنّ موسكو تبذل كل الجهود الممكنة لإفشال الاستفتاء الشعبي في مقدونيا، كما حاولت قبل ذلك في جمهورية الجبل الأسود، وأشار كذلك إلى محاولة روسيا قلب نظام الحكم في جمهورية الجبل الأسود، والتي مُنيت بالفشل.
لم يتبقّ سوى أيام معدودة على عقد الاستفتاء، وتبذل المعارضة جهودًا كبيرة وتحشد الجماهير، مستغلّة الخطاب القومي والوطني. وعلى الرغم من التفاؤل الأوروبي والأميركي المفرط بنجاح الاستفتاء، إلا أنّ المخاوف من فشله قائمة.

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح