26 سبتمبر 2018
أوروبا تواجه القرصنة الإلكترونية الروسية ببيان براغ
يرى مختصّون أنّ الحضور الروسي وتأثيره المباشر في القارة الأوروبية، خصوصا في شرقها، عاد مجدّدًا في الآونة الأخيرة. وليست هذه الرؤية دقيقة تمامًا، لأنّ الحضور الروسي لم يغِب يومًا عن شرق أوروبا، لكنّ التأثير الروسي المتجدّد في هذا الإقليم بات يحمل سماتٍ متطوّرةً وحديثة، متماثلة مع متطلبات العصر على الصعد، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والإعلامي، إضافة إلى قنوات التواصل الاجتماعي المنفتحة، القابلة للترويض بشتّى السبل التقنية وزرع متصيّدي الإنترنت Trolls للقيام بمهام الترويج الإعلامي على مدار الساعة، ما أتاح فرصًا ثمينة للتدخّل في الشؤون الداخلية لدول عديدة في الإقليم، وتأليب الرأي العام ضدّ المعالم والمظاهر الاجتماعية الاستراتيجية، المتماهية مع الغرب وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وما خلف الأطلسي.
تمكّن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بحنكةٍ، وهو الذي يتمتّع بكاريزما واضحة بين فئاتٍ عديدة في المجتمعات الأوروبية الشرقية، من استثمار ذلك، والدفع تجاه تحسين أداء الأحزاب الاشتراكية، ولاحقًا الأحزاب القومية، المستفيدة ماديًا من تعاطفها مع الكرملين، لتصبح طيّعة ومستعدّة للعمل الدؤوب لتنفيذ الأهداف الروسية. وعلى الرغم من أنّ هذه الأحزاب فضّلت الصمت، مع بداية اندلاع الصراع الروسي الأوكراني، وضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، إلا أنّها أخذت تصرّح علانية بشرعية هذه الخطوة، معتبرة القرم جزءًا من روسيا، مطالبةً، في الوقت نفسه، برفع الحصار الاقتصادي المعلن ضدّ روسيا.
أوروبا والتضليل الإعلامي الروسي
ترى حكومات دول أوروبية عديدة، أنّ روسيا تحاول جاهدة نشر أخبار ومعلومات وبيانات
كاذبة، في وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرتها، وتتساءل عن أسباب قصور ردود فعل بروكسل تجاه ذلك. وقد بعث وزراء خارجية ثماني دول أوروبية، كرواتيا، التشيك، لاتفيا، بولندا، رومانيا، السويد وبريطانيا خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2017، خطابًا موجّهًا لمفوّضية الأمن والشؤون الأوروبية الخارجية، فدريكا موغريني، يحذّرون خلاله من آليات التضليل الإعلامي والترويج الروسي الهادف إلى تشكيل حالةٍ ووضعية من الشكّ والامتعاض من الواقع الأوروبي، والفتّ في عضد الاتحاد ومصداقيته أمام شركائه، والسعي إلى تفكيك وحدة المنظومة أو إضعافها.
أخذت الدول المعنية في الاعتبار الأخبار العديدة التي تضجّ بها وسائل الإعلام والصحف المدعومة روسيًا، إضافة إلى البيانات المشكّكة بفاعلية عمل المؤسّسات الأوروبية، وفشل المنظومة للحدّ من تدفّق اللاجئين ومواجهة مخاطر الإرهاب، وتدنّي معدّلات الدخل الفردي والأزمات التي تعصف بدول الاتحاد Face news، جديدها أزمة كتالونيا وملف انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. ولكن، يصعب بالطبع إثبات التهم الموجّهة ضدّ روسيا أو غيرها من الجهات المختلفة، لسرعة حذف الروابط واستخدام ملقّمات خدمات مؤقّتٍ يصعب تعقّبها، إضافة إلى تشغيل تقنيات وابتكارات حديثة متطورة للغاية.
بيان براغ
صادق ما يزيد على مئة خبير أمني وبرلماني أميركي وأوروبي، قادمين من 22 دولة أوروبية، على بيان براغ تحت عنوان: "كيف يمكن للغرب الديمقراطي وقف بوتين"، وهو الذي صدر في العام 2008 الذي حمل مسمّى "الضمير الأوروبي والشيوعية"، بالتزامن مع اجتياح الدبابات الروسية جورجيا. ويشير البيان إلى ضعف الردّ الأوروبي، وإلى أنّ جزءًا كبيرًا من النخب السياسية الأوروبية لا تدرك حجم المخاطر التي تواجهها. وقد صادق على البيان نائب رئيس البرلمان الأوروبي، بيل براودر، وخبراء أمنيون واستراتيجيون، راكموا خبرات واسعة عبر استخدام آليات مكافحة "البروباغاندا"، وعدد كبير من رؤساء تحرير الصحف ورؤساء مؤسسات أوروبية وأميركية ومستشاري قادة الدول وغيرهم من المختصّين. وجاء في بنود البيان أنّ الأعمال العدوانية التي تبنتها روسيا الفيدرالية قد تسبّبت بمقتل ما يزيد على 10 آلاف مواطن أوكراني، دافعوا عن استقلال بلادهم، وأنّ أوروبا شهدت، للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ضمّ دولة عظمى إلى أراضي دولة أخرى ذات سيادة، إضافة إلى ما تشهده أوروبا من اختراقاتٍ متواصلة للأجواء الوطنية، وحدود دول الجوار واختطاف مواطنين أجانب، وشراء ذمم ناشطين وقادة سياسيين ونشر أخبار كاذبة، وتمويل مباشر لجماعات متطرفة، ودعمها لوجستيًا، والتدخّل السافر في الانتخابات الديمقراطية والقرصنة الإلكترونية.
على الرغم من هذه الممارسات العدائية الروسية، بقي الردّ الأوروبي ضعيفا للغاية، واستخدمت في أثنائه مبرّرات عديدة، من قبيل ضرورة التعاون مع روسيا لردع الإرهاب، لكن روسيا لم تقدّم أيّ مؤشّراتٍ لتعديل موقفها، والتوقف عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية ودول الجوار. وذهب البيان إلى أبعد من ذلك، متّهمًا الرئيس الروسي، بوتين، بتهديد أوجه المظاهر الديمقراطية، مستخدًما سياسة "فرّق تسُد" في العمق الأوروبي والأطلسي، من دون أن تعير النخب السياسية الأوروبية اهتمامًا جادًا تجاه هذه الممارسات. وباتت بعض الدول تخشى تهديدات موسكو، ونالت دول أخرى وعودًا بعقد صفقات مجدية لنيل نصيبها من مصادر الطاقة "الغاز والنفط" بأسعار منافسة، حال تخلّيها عن دعم التوجّهات الأوروبية والأطلسية.
وطالب بيان براغ بصورة رئيسية اعتراف القادة الأوروبيين بالخطر الروسي على الأوجه
الديمقراطية، مؤكّدًا على ضرورة الحيلولة ووقف أعمال التدخّل الأجنبي العدائي في الشؤون الداخلية للدول الديمقراطية. وأشار إلى ضرورة رفع مستوى العقوبات ضدّ عائلات المقرّبين للقادة الروس في المستقبل، إذ يدرك الكرملين جيّدًا انعدام وجود رادع، أو عقاب ما، مع استمرار نهجه العدائي الخارجي. وتتمثل الخطوة الثانية التي حثّ على تبنّيها البيان في التحقيق والكشف عن الأعمال العدائية ضدّ الدول الأخرى، حيث تهدف الحملات الروسية الخاطفة إلى التأثير على الانتخابات الوطنية، والاستفتاءات التي تعقد في بعض الدول الديمقراطية، وتشكيل لجان تحقيق ومتابعة لجمع ومناقشة الأدلة التي تدين موسكو، توخيًا للحفاظ على عامل الشفافية باعتبارها أحد مقوّمات الديمقراطية الغربية. هذه هي الوسيلة المثلى لشرح أبعاد المخاطر الروسية تجاه المجتمعات الأوروبية. وتحتاج هذه الخطوة إلى اعتماد دراسات اجتماعية، ذات أهداف واضحة، لتحديد الفئات الأكثر تأثّرًا بآليات البروباغاندا الروسية، والعمل على مواجهتها بطرق فاعلة.
ويُذكر أنّ الاتحاد الأوروبي قد اتّخذ قرارًا بتشكيل دائرة مختصة قبل سنتين، لمواجهة حملات التضليل الروسية، عرفت باسم (East Stratcom Task Force)، لكنّ الدائرة لم تتمكّن من الوصول إلى نتائج مرضية حتى اللحظة، لعدم توفّر طاقم حرفي مختصّ، قادر على رصد النشاط الإلكتروني الإعلامي الروسي، لترويج وجهات النظر والتأثير على الرأي العام في دول أوروبية عديدة. عدا عن أنّ الدائرة المعنية غير معروفة، ولا تمتلك موازنة منتظمة، على الرغم من أنّ النشاط الروسي قد بدأ منذ ثلاث سنوات، وليس متوقّعا أن يتوقّف، في ظلّ التفوّق الروسي وعدم وجود رادع قانوني سوى آليات الحصار الاقتصادي التي أثبتت عقمها.
تطرّق البيان كذلك إلى قصور القادة الأوروبيين، بل وحرصهم على عدم تسمية الأمور بأسمائها الحقيقية، مثالا، امتناع مفوضة الأمن والشؤون الخارجية، فديريكا موغريني، اعتبار روسيا المصدر الرئيس لترويج الأخبار الكاذبة المضللة، وليس متوقعاً أن تنجح أوروبا في مواجهة هذه المخاطر، إذا لم يتبنّاها القادة الأوروبيون.
ويُذكر أنّ المشاركين في أعمال إعداد البيان، والمصادقة عليه، ليسوا من الصفّ الأوّل للنخبة السياسية في أوروبا، وأعلى منصب مشارك هو نائب رئيس البرلمان الأوروبي، ويمثل معظم مستشاري القادة الأوروبيين دولاً أوروبية صغيرة، أو متوسطة التأثير. كما ألمحَ المشاركون إلى أنّ جهودهم لن تكلّل بالنجاح، إذا أبقت دول الاتحاد على دورها السلبي، من دون اتخاذ خطوات عملية لكبحِ الطموحِ الروسي الساعي إلى فرضِ حضوره وسيطرتِه في القارةِ القديمة.
تيريزا ماي تتّهم روسيا
وفي وقتٍ توخّت النخبة السياسية الأوروبية الحذر، وعدم رفع مستوى المواجهة مع روسيا، على الرغم من نجاح الأخيرة بالتدخّل بصورة غير مباشرة في الشأن الداخلي لدول عديدة في المنظومة، جاء ردّ رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، حادًا وواضحًا، حيث صرّحت ماي إنّ بلادها على بيّنة بالنشاط الروسي، وإنّ موسكو لن تنجح في مساعيها بفضل قدرة النهج الديمقراطي على التحمّل والمواجهة. وأكّدت ماي كذلك على أنّ بريطانيا ستقوم بما هو مطلوب للدفاع عن نفسها وعن القارّة الأوروبية، بالتنسيق مع شركائها لتحقيق هذه الغاية. هذا ما صرّحت به ماي، في خطاب ألقته لشرح أطر السياسة الخارجية العامّة للبلاد، خلال حفل العشاء السنوي الذي أقامه عمدة لندن صادق خان.
جاءت الحدّة التي اتّسم بها خطاب ماي مفاجئة وغير متوقّعة، حيث اتّهمت في كلمتها موسكو
بتهديد النظام العالمي، والتدخّل في الانتخابات الوطنية، ونشر الأخبار المفبركة الكاذبة في وسائل الإعلام الموالية لها، معتبرة هذه الممارسات بمنزلة سلاح مهم لبثّ التفرقة في الغرب. وانتقدت ماي المجال الواسع والكبير للنشاط الروسي، ورفعت نبرة التهديد تجاه الكرملين، قبل موعد زيارة وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، إلى موسكو في ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
وذكّرت رئيسة الوزراء مجدّدًا بعمليات خرق الطيران الحربي الروسي الأجواء الغربية، ومحاولات التجسّس الإلكتروني الذي برعت به موسكو لزعزعة الاستقرار في أوروبا، بما في ذلك الهجمات والقرصنة الإلكترونية ضدّ وزارة الدفاع الدنماركية والبرلمان الألماني، ومحاولة استخدام المعلومات سلاحا مؤثّرا لا يُستهان به.
بريطانيا تعد بالدفاع عن القارة الأوروبية
تأتي هذه الوعود بالتزامن مع تحديد موعد انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، والموقف الرسمي البريطاني هو الأكثر وضوحًا تجاه موسكو. لا توجد رغبة أوروبية للعودة إلى مرحلة الحرب الباردة، لكنّ الطموح الروسي على الصعيد الخارجي كبير للغاية، خصوصا مع النجاح الواضح الذي حقّقه في سورية، مع تراجع الدور الأميركي وحلف الناتو في أقاليم وجبهات عديدة مستعرة في الشرق الأوسط. وستحافظ بريطانيا على مصالحها، حيث أوروبا شريك استراتيجي. ومن الملاحظ أنّ خطاب ماي إشارة واضحة إلى بروكسل للتحرّك واتخاذ موقف جادّ لمواجهة التدخّلات الروسية المؤثّرة.
ويمكن لرئيسة الوزراء البريطانية جلد موسكو بخطابها، لكن هذا يتعذّر إلى حدّ كبير في دول أوروبا الشرقية التي ترتبط بعلاقات قديمة مع روسيا، ويجد قادة هذا الإقليم سدًا منيعًا ترفعه الأحزاب الاشتراكية الحديثة ضدّ كل محاولات انتقاد موسكو، بل وتطالب هذه الأحزاب على الفور برفع الحصار الاقتصادي المعلن منذ سنوات ضدّ روسيا، كما نشهد انتقاداتٍ لاذعة ضدّ بروكسل والمفوضية الأوروبية، ورفضًا لقبول قراراتٍ عديدة متعلقة بحصص توزيع اللاجئين وغيرها ذات التوجّهات الموحّدة، لرفع مستوى أداء المؤسسات الأوروبية، مذكّرةً بمراحل مواجهة سابقة، لكن هذه الأحزاب ارتدت حلّة غربية جديدة، لتبدو أكثر أناقة وقبولا بين فئات المجتمع الأوروبي الشرقيّ المعاصر.
تمكّن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بحنكةٍ، وهو الذي يتمتّع بكاريزما واضحة بين فئاتٍ عديدة في المجتمعات الأوروبية الشرقية، من استثمار ذلك، والدفع تجاه تحسين أداء الأحزاب الاشتراكية، ولاحقًا الأحزاب القومية، المستفيدة ماديًا من تعاطفها مع الكرملين، لتصبح طيّعة ومستعدّة للعمل الدؤوب لتنفيذ الأهداف الروسية. وعلى الرغم من أنّ هذه الأحزاب فضّلت الصمت، مع بداية اندلاع الصراع الروسي الأوكراني، وضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، إلا أنّها أخذت تصرّح علانية بشرعية هذه الخطوة، معتبرة القرم جزءًا من روسيا، مطالبةً، في الوقت نفسه، برفع الحصار الاقتصادي المعلن ضدّ روسيا.
أوروبا والتضليل الإعلامي الروسي
ترى حكومات دول أوروبية عديدة، أنّ روسيا تحاول جاهدة نشر أخبار ومعلومات وبيانات
أخذت الدول المعنية في الاعتبار الأخبار العديدة التي تضجّ بها وسائل الإعلام والصحف المدعومة روسيًا، إضافة إلى البيانات المشكّكة بفاعلية عمل المؤسّسات الأوروبية، وفشل المنظومة للحدّ من تدفّق اللاجئين ومواجهة مخاطر الإرهاب، وتدنّي معدّلات الدخل الفردي والأزمات التي تعصف بدول الاتحاد Face news، جديدها أزمة كتالونيا وملف انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. ولكن، يصعب بالطبع إثبات التهم الموجّهة ضدّ روسيا أو غيرها من الجهات المختلفة، لسرعة حذف الروابط واستخدام ملقّمات خدمات مؤقّتٍ يصعب تعقّبها، إضافة إلى تشغيل تقنيات وابتكارات حديثة متطورة للغاية.
بيان براغ
صادق ما يزيد على مئة خبير أمني وبرلماني أميركي وأوروبي، قادمين من 22 دولة أوروبية، على بيان براغ تحت عنوان: "كيف يمكن للغرب الديمقراطي وقف بوتين"، وهو الذي صدر في العام 2008 الذي حمل مسمّى "الضمير الأوروبي والشيوعية"، بالتزامن مع اجتياح الدبابات الروسية جورجيا. ويشير البيان إلى ضعف الردّ الأوروبي، وإلى أنّ جزءًا كبيرًا من النخب السياسية الأوروبية لا تدرك حجم المخاطر التي تواجهها. وقد صادق على البيان نائب رئيس البرلمان الأوروبي، بيل براودر، وخبراء أمنيون واستراتيجيون، راكموا خبرات واسعة عبر استخدام آليات مكافحة "البروباغاندا"، وعدد كبير من رؤساء تحرير الصحف ورؤساء مؤسسات أوروبية وأميركية ومستشاري قادة الدول وغيرهم من المختصّين. وجاء في بنود البيان أنّ الأعمال العدوانية التي تبنتها روسيا الفيدرالية قد تسبّبت بمقتل ما يزيد على 10 آلاف مواطن أوكراني، دافعوا عن استقلال بلادهم، وأنّ أوروبا شهدت، للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ضمّ دولة عظمى إلى أراضي دولة أخرى ذات سيادة، إضافة إلى ما تشهده أوروبا من اختراقاتٍ متواصلة للأجواء الوطنية، وحدود دول الجوار واختطاف مواطنين أجانب، وشراء ذمم ناشطين وقادة سياسيين ونشر أخبار كاذبة، وتمويل مباشر لجماعات متطرفة، ودعمها لوجستيًا، والتدخّل السافر في الانتخابات الديمقراطية والقرصنة الإلكترونية.
على الرغم من هذه الممارسات العدائية الروسية، بقي الردّ الأوروبي ضعيفا للغاية، واستخدمت في أثنائه مبرّرات عديدة، من قبيل ضرورة التعاون مع روسيا لردع الإرهاب، لكن روسيا لم تقدّم أيّ مؤشّراتٍ لتعديل موقفها، والتوقف عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية ودول الجوار. وذهب البيان إلى أبعد من ذلك، متّهمًا الرئيس الروسي، بوتين، بتهديد أوجه المظاهر الديمقراطية، مستخدًما سياسة "فرّق تسُد" في العمق الأوروبي والأطلسي، من دون أن تعير النخب السياسية الأوروبية اهتمامًا جادًا تجاه هذه الممارسات. وباتت بعض الدول تخشى تهديدات موسكو، ونالت دول أخرى وعودًا بعقد صفقات مجدية لنيل نصيبها من مصادر الطاقة "الغاز والنفط" بأسعار منافسة، حال تخلّيها عن دعم التوجّهات الأوروبية والأطلسية.
وطالب بيان براغ بصورة رئيسية اعتراف القادة الأوروبيين بالخطر الروسي على الأوجه
ويُذكر أنّ الاتحاد الأوروبي قد اتّخذ قرارًا بتشكيل دائرة مختصة قبل سنتين، لمواجهة حملات التضليل الروسية، عرفت باسم (East Stratcom Task Force)، لكنّ الدائرة لم تتمكّن من الوصول إلى نتائج مرضية حتى اللحظة، لعدم توفّر طاقم حرفي مختصّ، قادر على رصد النشاط الإلكتروني الإعلامي الروسي، لترويج وجهات النظر والتأثير على الرأي العام في دول أوروبية عديدة. عدا عن أنّ الدائرة المعنية غير معروفة، ولا تمتلك موازنة منتظمة، على الرغم من أنّ النشاط الروسي قد بدأ منذ ثلاث سنوات، وليس متوقّعا أن يتوقّف، في ظلّ التفوّق الروسي وعدم وجود رادع قانوني سوى آليات الحصار الاقتصادي التي أثبتت عقمها.
تطرّق البيان كذلك إلى قصور القادة الأوروبيين، بل وحرصهم على عدم تسمية الأمور بأسمائها الحقيقية، مثالا، امتناع مفوضة الأمن والشؤون الخارجية، فديريكا موغريني، اعتبار روسيا المصدر الرئيس لترويج الأخبار الكاذبة المضللة، وليس متوقعاً أن تنجح أوروبا في مواجهة هذه المخاطر، إذا لم يتبنّاها القادة الأوروبيون.
ويُذكر أنّ المشاركين في أعمال إعداد البيان، والمصادقة عليه، ليسوا من الصفّ الأوّل للنخبة السياسية في أوروبا، وأعلى منصب مشارك هو نائب رئيس البرلمان الأوروبي، ويمثل معظم مستشاري القادة الأوروبيين دولاً أوروبية صغيرة، أو متوسطة التأثير. كما ألمحَ المشاركون إلى أنّ جهودهم لن تكلّل بالنجاح، إذا أبقت دول الاتحاد على دورها السلبي، من دون اتخاذ خطوات عملية لكبحِ الطموحِ الروسي الساعي إلى فرضِ حضوره وسيطرتِه في القارةِ القديمة.
تيريزا ماي تتّهم روسيا
وفي وقتٍ توخّت النخبة السياسية الأوروبية الحذر، وعدم رفع مستوى المواجهة مع روسيا، على الرغم من نجاح الأخيرة بالتدخّل بصورة غير مباشرة في الشأن الداخلي لدول عديدة في المنظومة، جاء ردّ رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، حادًا وواضحًا، حيث صرّحت ماي إنّ بلادها على بيّنة بالنشاط الروسي، وإنّ موسكو لن تنجح في مساعيها بفضل قدرة النهج الديمقراطي على التحمّل والمواجهة. وأكّدت ماي كذلك على أنّ بريطانيا ستقوم بما هو مطلوب للدفاع عن نفسها وعن القارّة الأوروبية، بالتنسيق مع شركائها لتحقيق هذه الغاية. هذا ما صرّحت به ماي، في خطاب ألقته لشرح أطر السياسة الخارجية العامّة للبلاد، خلال حفل العشاء السنوي الذي أقامه عمدة لندن صادق خان.
جاءت الحدّة التي اتّسم بها خطاب ماي مفاجئة وغير متوقّعة، حيث اتّهمت في كلمتها موسكو
وذكّرت رئيسة الوزراء مجدّدًا بعمليات خرق الطيران الحربي الروسي الأجواء الغربية، ومحاولات التجسّس الإلكتروني الذي برعت به موسكو لزعزعة الاستقرار في أوروبا، بما في ذلك الهجمات والقرصنة الإلكترونية ضدّ وزارة الدفاع الدنماركية والبرلمان الألماني، ومحاولة استخدام المعلومات سلاحا مؤثّرا لا يُستهان به.
بريطانيا تعد بالدفاع عن القارة الأوروبية
تأتي هذه الوعود بالتزامن مع تحديد موعد انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، والموقف الرسمي البريطاني هو الأكثر وضوحًا تجاه موسكو. لا توجد رغبة أوروبية للعودة إلى مرحلة الحرب الباردة، لكنّ الطموح الروسي على الصعيد الخارجي كبير للغاية، خصوصا مع النجاح الواضح الذي حقّقه في سورية، مع تراجع الدور الأميركي وحلف الناتو في أقاليم وجبهات عديدة مستعرة في الشرق الأوسط. وستحافظ بريطانيا على مصالحها، حيث أوروبا شريك استراتيجي. ومن الملاحظ أنّ خطاب ماي إشارة واضحة إلى بروكسل للتحرّك واتخاذ موقف جادّ لمواجهة التدخّلات الروسية المؤثّرة.
ويمكن لرئيسة الوزراء البريطانية جلد موسكو بخطابها، لكن هذا يتعذّر إلى حدّ كبير في دول أوروبا الشرقية التي ترتبط بعلاقات قديمة مع روسيا، ويجد قادة هذا الإقليم سدًا منيعًا ترفعه الأحزاب الاشتراكية الحديثة ضدّ كل محاولات انتقاد موسكو، بل وتطالب هذه الأحزاب على الفور برفع الحصار الاقتصادي المعلن منذ سنوات ضدّ روسيا، كما نشهد انتقاداتٍ لاذعة ضدّ بروكسل والمفوضية الأوروبية، ورفضًا لقبول قراراتٍ عديدة متعلقة بحصص توزيع اللاجئين وغيرها ذات التوجّهات الموحّدة، لرفع مستوى أداء المؤسسات الأوروبية، مذكّرةً بمراحل مواجهة سابقة، لكن هذه الأحزاب ارتدت حلّة غربية جديدة، لتبدو أكثر أناقة وقبولا بين فئات المجتمع الأوروبي الشرقيّ المعاصر.