فرص التغيير السياسي في العراق

10 اغسطس 2018
+ الخط -
لم تمرّ سنوات العراق منذ احتلته أميركا عام 2003 من دون حراك جماهيري، ولأسباب شتى، في هذه المحافظة أو تلك، ثم بشكل جماعي، شمل كل مناطق البلاد من البصرة وحتى الموصل، مرورا بالعاصمة بغداد.
كانت معظم الاحتجاجات الشعبية ترتبط، وما زالت، بجملة من المطالب المتعلقة بالخدمات التي شهدت انحدارا خطيرا منذ العام الأول للاحتلال، وصولا إلى الواقع الحالي الذي تضاءلت فيه الخدمات الأساسية في محافظات الجنوب تقريبا، مع بقاء مشكلة المهجّرين والمدن المدمرة في محافظات ديالى والأنبار وصلاح الدين ونينوى.
ولعل المتغير الخاص بربط موضوع التدخل الإيراني في الشأن العراقي، بشكل واضح، كان الملاحظة الأبرز في هتافات الحراك الشعبي العراقي، خصوصا في محافظات تمثل السطوة الإيرانية فيها اليد الطولى (عبر المليشيات المؤتمرة بأمرها)، يمثل التطور النوعي الأهم في تغير بوصلة الحراك نحو تشخيص سياسي أدق وأهم، مقارنة بموضوع الخدمات.
نعم، العراق الآن في مأزق وطني كبير، لماذا؟ لأن النظام السياسي الذي يضبط العملية السياسية فيه تم تصميمه ليعتمد المحاصصة الطائفية والقومية وسيلةً لترضية كل الذين شاركوا أو تعاطفوا مع عملية الإعداد لغزو العراق واحتلاله، وبالتالي حاولت القوى الرئيسة المتحكّمة في هذه العملية السياسية أن تعمّم حالة التحزّب الطائفي والعرقي، لجعل جذور هذه العملية راسخةً في قواعدها الجماهيرية، معتقدة أنها ستكون من ثوابت هذه القواعد بعد فترة، نتيجة المكاسب المادية و(الأمنية) التي ستحصل عليها مقارنةً بمن سواها من بقية طوائف أو قوميات الشعب العراقي.
تظهر مراجعة حالات الحراك الجماهيري، خلال الـ 15 عاما الماضية، الطريقة التي تعاملت بها حكومة نوري المالكي مثلا مع المحتجين. لكن هذه المقالة تهدف إلى وضع ثلاثة نماذج 
لهذا الحراك الشعبي، جاء ترتيبها زمنيا بعد الانسحاب الأميركي الرسمي من العراق نهاية عام 2011. كان الأول في المنطقة الغربية، وتحديدا في الفلوجة والأنبار، ثم تبعتهما صلاح الدين والحويجة والموصل، وهي ما اصطلح على تسميتها "الاعتصامات"، بدأت في 25 ديسمبر/كانون الأول 2012 وانتهت في 30 ديسمبر/كانون الأول 2013، وقال عنها رئيس مجلس الوزراء العراقي حينها، نوري المالكي، في بداية الأمر، إنها "ذات مطالب مشروعة"، عاد هو نفسه ليوسمها بـ "الإرهاب". وباندساس تنظيم القاعدة بين قيادييها، ثم روّج علنا، ومن خلال خطب متلفزة إلى موضوع "معاوية ويزيد"، في إشارة واضحة إلى عملية تحشيد طائفي مقيت، وهو ما عنى، في النهاية، قمعها بالقوة وحرق الخيام، واعتقال حتى نواب البرلمان الذين يمثلون المناطق المعتصمة، إضافة إلى معتصمين كثيرين، بينهم نساء ورجال دين.
شهد العام 2015 - 2016 النموذج الثاني والأكثر وضوحا وتأثيرا ونضجا للحراك الشعبي العراقي، حيث بدأت جموع العراقيين بالتجمهر، ثم التظاهر بشكل منظم في قلب العاصمة بغداد (ساحة التحرير)، وتحت يافطات وشعارات تطالب باجتثاث الفساد والمفسدين وإيقاف هدر المال العام، وإطلاق سراح المعتقلين من دون محاكمات، إضافة إلى نقص الخدمات أو انعدامها، ثم سرعان ما تطوّرت إلى شعارات تطالب بإنهاء دور إيران في العراق "إيران بره بره". وأخيرا المطالبة بتنحي رئيس مجلس الوزراء، حيدر العبادي، عن الحكم بسبب اعتماده سياسة "التسويف"، بحسب المتحدثين باسم المتظاهرين حينها. هذا النموذج، وهو الأكبر والأكثر مشاركة شعبية متنوعة في العراق، تم احتواؤه بعد أن تبنّى موقف المتظاهرين صوتا وحضورا، السيد مقتدى الصدر، وهو نفسه من فتحت له أبواب المنطقة الخضراء ليضرب فيها خيمته، ثم ليسمح للمتظاهرين بدخولها، ودخول مبنى البرلمان وساحة الاحتفالات الكبرى، ما أفضى، في النهاية، إلى امتصاص زخم التظاهرات، من دون تحقيق أيٍّ من مطالبها.
نشهد اليوم النموذج الثالث للحراك الشعبي العراقي؛ وهو ما يمكن أن يطلق عليه "انتفاضة الشباب"، فحراك يوليو/تموز 2018 الذي بدأ وكبر، ثم انتشر، انطلق من البصرة ومن مجموعة شباب أعمارهم بين 18-22 عاما، ضاقوا ذرعا بحالة البطالة والفقر والتهميش في مناطقهم، تلك المناطق التي كان ممثلوهم في العملية السياسية يحاولون إقناعهم بأنهم سيوفرون لهم حياة متميزة، وأموالا كثيرة، وأنهم سيجعلون من مدنهم في البصرة وميسان والناصرية والديوانية والسماوة وبابل أشبه بمدينة دبي، لكنهم، وبعد عقد ونصف العقد، فقدوا كل ما كان من خدمات ومن حقوق، ووجدوا أنفسهم أمام تغوّل إيراني، وسطوة غير معهودة لمجموعة مليشيات تحميها الدولة، تدوس بيوتهم وتعتقل من تعتقل منهم، ثم يصبحون ويمسون على صور الخميني وخامنئي، وهي تكبر كل مرة على واجهات المباني وفوق الجسور وأعمدة الكهرباء (المفقودة).
الحراك اليوم هو الأخطر فعليا؛ حيث تجاوز الشباب العقدة الطائفية التي حاول رعاة النظام 
السياسي الجديد في العراق ترسيخها فيهم (تحديدا)، كما تجاوزوا موضوع ما يمكن أن يعطى لهم من وعودٍ اعتادوا على سماعها من حيدر العبادي أو سواه، ليحوّلوا سهام شعاراتهم صوب المصدر الرئيس لمشكلات النظام السياسي والتنموي الوطني في العراق، إيران ثم واشنطن، فكانت تظاهراتهم أمام القنصليتين، الإيرانية والأميركية، في البصرة، إعلانا واضحا أن على من يريد التغيير والإصلاح في العراق أن يبدأ أولا بالتعامل مع هذين البلدين، باعتبارهما الجهتين المسؤولتين عن احتلال العراق أولا، ثم عن تمكين كل المنظومة السياسية العاملة من البقاء بشكل حصين داخل المنطقة الخضراء.
ليس التغيير في العراق أمرا سهلا، لكنه ممكن، إذا ما استمرت الاحتجاجات بشكلها السلمي والكثيف والشامل في عموم العراق، وإذا ما شعر الإيرانيون أنهم أمام إرادة شعبية أقوى من التأثيرات العاطفية المسيسة للدين (المذهب)، والتي سوّقها أكثر من 15 عاما السياسيون العراقيون المتعاونون معها، والتي شملت كل نواحي الحياة، بدءا من المناهج الدراسية، وانتهاءً بجعل صور المراجع الإيرانية الرئيسة حالة نمطية في الشارع العراقي، والجنوبي منه خصوصا.
لم تدخل الولايات المتحدة والعربية السعودية ربما بشكل واضح ومباشر على خط الاضطرابات الحالية، لأسباب كثيرة، تتعلق بعدم رغبة الدولتين في تغيير سياسي غير مدروس ومفاجئ في العراق، قد يعيد قوى سياسيةً دفعت بليونات الدولارات، وقدمت آلاف القتلى من أجل إسقاطها واجتثاثها. كما أنهما لا ترغبان في أن يكون الناتج النهائي لهذا الحراك في مصلحة طهران التي تسعى واشنطن وحلفاؤها إلى تقليص نفوذها في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج تحديدا، إلى أضعف الدرجات، واحدة من هذه المخاوف هي تفتيت محافظات جنوب العراق إلى أقاليم، يسهل معها عزل الحراك السياسي لكل إقليم، وكذلك الاستفراد به سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وكلها ملفات بيد إيران بشكل تفصيلي.
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن