كوريا الجنوبية وتسارع التاريخ

06 يوليو 2018
+ الخط -
من بعيد، ظلت كوريا الجنوبية تبدو قصة نجاح مثيرة، ونموذجا فريدا في التنمية، اندرج ضمن ما تعرف في الأدبيات الاقتصادية بالنمور الآسيوية، وهو ما كان يعبر عن خطاطة استثنائية في التقدم، تميزت به أربعة اقتصاديات في شرق آسيا: تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ وكوريا الجنوبية. وذلك بعد أن تمكنت من تحقيق قفزة جبارة خلال السبعينيات، معتمدة على معدلات نمو غير مسبوقة، وعلى اختيارات تصنيعية ناجعة.
وعلى مستوى السياسة الدولية، ارتبطت بواحدة من بؤر التوتر الحاد داخل النظام الدولي، في علاقتها المثيرة بجارتها الشمالية، ذلك أن هذه العلاقة، بعد أن شكلت حالة مدرسية لصراع القوتين العظميين خلال الحرب الباردة، استطاعت أن تشكل بعد ذلك لغزا مغريا لتحاليل خبراء العلاقات الدولية وعلم السياسية الذين حاولوا فهم أسباب صمود هذا التوتر المزمن لفترة ما بعد أفول النظام الدولي القديم. ومن خلال ذلك، فهم صمود نظام كوريا الشمالية نفسه، خصوصا عندما تتم الإحالة إلى مقارنات مع واقع لتجارب الانقسام الشبيهة، سواء في ألمانيا وفيتنام وغيرهما.
قدّرت لكاتب هذه السطور زيارة سيول في إطار علمي، يتعلق بمؤتمر عالمي للجمعية الدولية للقانون الدستوري، انعقد في العاصمة الكورية الجنوبية، الأسبوع الثالث من شهر يونيو/ حزيران المنصرم، لبحث موضوع الدساتير وسؤال تدبير النزاعات الدولية. ولم تكن سيول، على ما يبدو، قد استوعبت حالة تسارع التاريخ التي تعيشها شبه الجزيرة الكورية، وقد كادت تتحول من جديد إلى قلب السياسات الدولية. كانت عناوين الصحافة الوطنية والدولية لا تزال مفتونة بالمصافحة التاريخية بين الرئيسين الأميركي والكوري الشمالي، دونالد ترامب وكيم جونغ أون، في قمة 12 يونيو/ حزيران الماضي في جزيرة سينتوسيا في سنغافورة، والتي جمعت أول مرة رئيسي كوريا الشمالية وأحد قاطني البيت الأبيض، بشأن موضوع الترسانة النووية لبيونغ يانغ، وهي قمة انتظمت بعد مسار مجنون من الحرب الكلامية التي لم تخل، في بعض مقاطعها الحادة، من تهديدات باللجوء إلى عدوان نووي لا يبقي ولا يذر.
وعلى الرغم من غموض مخرجات هذا اللقاء غير المسبوق، والتي لم تنص، لا على التزام 
كوري شمالي يبدأ بتفكيك سلاحها النووي، ولا على التزام أميركي بتعليق العقوبات الدولية، فإنها شكلت حدثا فارقا داخل يوميات السياسة الدولية، بأبعاد تاريخية ورمزية مؤكدة.
لذلك، انصب اهتمام الرأي العام في كوريا الجنوبية على تأكيد هذه القمة عناصر الإعلان السياسي في 27 إبريل/ نيسان الماضي، إثر القمة بين رئيسي الكوريتين، اهتمام يغذيه إيمان واسع بالأفق الوحدوي، تعكسه بيسر علامات ورموز وتماثيل وأعلام حاضرة في الشوارع والساحات العمومية.
كانت إحدى أقوى لحظات زيارة كاتب هذه السطور الرحلة التي نظمت للمشاركين في المؤتمر إلى المنطقة المعزولة السلاح، والتي تأسست في 1953، إثر توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بإشراف من الأمم المتحدة، في أعقاب حرب السنوات الثلاث المدمرة بين الكوريتين، حيث تم إقرار حزام أمني واسع من دون سلاح، وهي المساحة التي تحيط بها، للمفارقة، واحدة من أعلى نسب الكثافة التسلحية في العالم. وتشكل هذه المنطقة، في شقها الجنوبي، الفضاء الأقرب جغرافيا إلى الجمهورية الأكثر انغلاقا في العالم، حيث يمكن للسياح التطلع بالعين المجردة أو باستعمال منظارات مخصصة لذلك، إلى ما يظهر كأنها مدينة للأشباح في الجانب الشمالي.
تقدّم مواقع هذه المنطقة المعزولة خدمة سياحية، مبنية على موضوعة الحرب والسلام، من خلال التأريخ لتفاصيل كثيرة من الحرب بين الكوريتين، وتقديم معطيات غزيرة بشأن خصوصيات هذا الحزام الأمني.
يحضر الاهتمام بتخليد هذه الفترة الأليمة من التاريخ بقوة داخل اهتمامات الدولة والمجتمع، كما يشهد على ذلك المتحف الحربي في سيول، حيث تعرض قطع من الأسلحة التي استعملت خلال الحرب، الى جانب طائرات ودبابات وسفن، وذلك كله ضمن فضاء شاسع مصمم على استقبال مئات الزوار، وخصوصا التلاميذ الصغار، حتى تظل الذاكرة المبنية عل الآلام والجراح حية في المخيال الجمعي.
ويكتشف زوار سيول شعبا آسيويا، لم تمنعه العولمة من الاعتزاز بعناصر هويته القومية، خصوصا اللغوية منها، كما لم يمنعه الاستثمار في السلام من تخليد حرب مدمرة في الذاكرة المشتركة. شعب يشتغل بلا كلل، وعندما ينهي أفراده ساعات عملهم الطويلة، يقبلون على الحياة، مجتمعين حول موائد الطعام في طقس احتفائي، يفعلون ذلك بهدوء كثير قد يبدو غريبا، خصوصا للقادمين من مزاج متوسطي، يغلب عليه الصياح.
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي