14 نوفمبر 2024
صفقة القرن المرتبكة
كم هي مرتبكةٌ ومتعثرةٌ تلك الصفقة التي بشّر بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأوكل تنفيذها لثلاثي صهيوني، صهره جاريد كوشنر، ومبعوثه إلى الشرق الأوسط جيسون غرينبلات، وسفيره في إسرائيل ديفيد فريدمان، بعدما أبعد عن مداولاتها وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأميركي، وتجاهل في السعي إليها الرباعية الدولية والأمم المتحدة وحلفاءه الأوروبيين.
تعثرت الصفقة منذ بدايتها، عندما أعلن ترامب اعترافه بالقدس عاصمةً موحدة لإسرائيل، يومها غدا الموقف الأميركي معزولا على كل صعيد، أكان ذلك في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، أم عبر المؤتمر الإسلامي في إسطنبول، وحراك الشارع في كل مكان، ما شكّل نكسة للمشروع في لحظات ولادته الأولى.
الثابت الوحيد في الصفقة هو إطارها العام الذي يفترض بناء تحالفات جديدة في المنطقة تكون إسرائيل جزءًا رئيسًا منها، عبر إحلال منظومات صراع جديدة، تشكّل فيها إيران في هذه المرحلة عدوا ينبغي مقارعته، وترتسم التحالفات على هذا الأساس، وسط تطبيعٍ عربيٍّ صهيونيٍّ تصبح فيه إسرائيل جزءًا من نسيج المنطقة.
ثمّة ارتباك واضح في التفصيلات، وفي الحصول على موافقة الأطراف المختلفة، واصطدمت بعض التفصيلات بمعارضة فلسطينية وأردنية، ولم يلقَ بعضها الآخر ارتياحًا إسرائيليًا، على الرغم من الانحياز الأميركي الكامل لإسرائيل، إذ لم يرغب رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في تقديم أي التزام أو تعهد تجاه الفلسطينيين، مهما بدا ضئيلًا وشكليًا، ما أدّى إلى تأخيرٍ في إطلاقها، والعودة من جديد إلى نقاش أفكارها بما يرضي الطموح الصهيوني كليًا.
ثمّة انحياز وتواطؤ أميركي دائم مع الكيان الصهيوني، لكنّ هذه الإدارة تخطت جميع المواقف النظرية السابقة للإدارات الأميركية المتعاقبة، إذ لم تعد هناك مرجعية ما لعملية السلام. وثمّة تجاوزٌ لجميع قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، تحت شعار "ما يتفق عليه الطرفان". وحتى هذا الشعار سرعان ما اختفى، لتحل مكانه نظرية الحل الإقليمي بين العرب وإسرائيل، والذي سيفتح نافذةً صغيرةً للحل مع الفلسطينيين. وتناقضت التصريحات الأميركية بين من يقول باستئناف المفاوضات ومن يرى ألّا مبرر لها، ذلك أنّ حل القضية الفلسطينية ليس إلّا الجزء الصغير الهامشي من هذه الصفقة الكبرى.
ما نشاهده ونترقبه هو محاولة مرتبكة لفرض أمر واقع على الشعب الفلسطيني والأمة العربية. ويقوم هذا الحل على تكريس القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، وقد يتفتّق الذهن عن اختراع قدسٍ أخرى في بعض ضواحيها، بهدف ابتلاع نقمة العرب والمسلمين من هذا القرار. ومن هنا، ينبغي الحذر من تسمياتٍ مختلفة، مثل القدس الشرقية أو القدس الشريف، عند الحديث عن عاصمةٍ فلسطينية، فما هذه أو تلك إلّا محاولة بائسة لتمرير القدس عاصمة لإسرائيل، وإظهار تحقيق نصر وهمي.
في الضفة الغربية، تسعى الصفقة المفترضة إلى تكريس واقع الاستيطان والاعتراف بشرعيته، ما يعني عمليًا ضم 88% من مساحة الضفة الغربية والقدس إلى الكيان الصهيوني، وهي مساحة القدس الكبرى والمناطق التي يُطلق عليها منطقة سي، أي لن يتبقى للفلسطينيين منها سوى 12% في مراكز المدن الكبرى، ضمن جزر صغيرة ومنعزلة. وحتى هذه، في أحسن حالاتها، لن تتمتع سوى بشكل من الإدارة البلدية للسكان وليس للأرض، وستكون للقاطنين فيها صفة المقيم وليس المواطن. ولعلّ في التفكير الصهيوني ما يسمح لهؤلاء بممارسة شكل من الحقوق السياسية وحقوق المواطنة في الأردن وعبرها، وهو ما يسهّل تهجيرهم لاحقًا، ويبرّر حجم الضغط الذي يتعرّض له الأردن في هذه الفترة، لحمله على الموافقة على مثل هذه الصفقة.
ستكون غزة بين سندان الحصار والعقوبات ومطرقة الإغراءات المالية والوعود بتحقيق انفراجات اقتصادية وتمويل خليجي وكهرباء وماء وميناء ومطار ومشاريع استثمارية في سيناء. بمعنى أنّه يجري تصوير مشكلة قطاع غزة اقتصاديةً وإنسانيةً، وليست مشكلة احتلال وحصار. ويكون الحل منطلقًا من هذا الباب، عبر تشديد الحصار من جهة، لإجبار أهلها على القبول بحلول اقتصادية أو إنسانية جزئية تخفف من بعض جوانب معاناتهم اليومية، فهي سياسة العصا والجزرة التي تهدف إلى تركيع القطاع.
ما يسعى إليه العدو الصهيوني، مدعومًا من الولايات المتحدة الأميركية، هو أخطر من ذلك كله، فالغرض الأساسي لما يجري كله هو العمل على نزع صفة الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية، وإلغاء صفة المحتل عن العدو الصهيوني. ولكن، لن تستطيع الولايات المتحدة الأميركية، ولا إسرائيل، أن تغيّر القانون الدولي، ولا أن تتجاوز الشرعية الدولية إلى ما لا نهاية، وهما تدركان ذلك جيدًا، فالمواثيق الدولية كلها تنظم علاقة المحتل بالأرض والسكان في المناطق المحتلة، وهي بمجملها تدين أي انتهاكاتٍ وتجاوزات، بل وتعتبر معظمها، مثل تهجير السكان والاستيطان، جرائم حرب يحاسب عليها القانون الدولي، وهذا ما يفتقر العدو لإمكانية تغييره أو تعديله.
ولكن، ماذا لو تغيّرت صفة المناطق وصفة العدو، فلم تعد المناطق محتلة، ولم يعد العدو محتلًا؟ هنا تصبح لا قيمة لجميع تلك القوانين والقرارات التي اتخذت، أو التي سوف تُتخذ. وهنا تأتي خطورة حديث السفير الأميركي في إسرائيل عن شرعية المستوطنات التي اعتبرها مقامةً على الأرض التاريخية للشعب اليهودي، وهنا المعركة الحقيقية المقبلة.
ولدت "صفقة القرن" عرجاء، ونمت مرتبكة ومتعثرة، لأنّها ببساطة تفتقر إلى مبادئ الحق والعدل، وتداعب الحلم الصهيوني والرواية التوراتية، وتسعى إلى بناء إطار سياسي إقليمي هش، لن يصمد أمام رياح التغيير، وتصطدم بإرادة الشعب الفلسطيني والأمة العربية. ولعلّ جلّ ما نحتاجه لمواجهتها وإلحاق الهزيمة بها بعض من الإرادة والعزم والتصميم، ليكون مصيرها مصير عشرات من مشاريع التصفية التي مرّت واندثرت، وبقيت فلسطين وقضيتها.
تعثرت الصفقة منذ بدايتها، عندما أعلن ترامب اعترافه بالقدس عاصمةً موحدة لإسرائيل، يومها غدا الموقف الأميركي معزولا على كل صعيد، أكان ذلك في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، أم عبر المؤتمر الإسلامي في إسطنبول، وحراك الشارع في كل مكان، ما شكّل نكسة للمشروع في لحظات ولادته الأولى.
الثابت الوحيد في الصفقة هو إطارها العام الذي يفترض بناء تحالفات جديدة في المنطقة تكون إسرائيل جزءًا رئيسًا منها، عبر إحلال منظومات صراع جديدة، تشكّل فيها إيران في هذه المرحلة عدوا ينبغي مقارعته، وترتسم التحالفات على هذا الأساس، وسط تطبيعٍ عربيٍّ صهيونيٍّ تصبح فيه إسرائيل جزءًا من نسيج المنطقة.
ثمّة ارتباك واضح في التفصيلات، وفي الحصول على موافقة الأطراف المختلفة، واصطدمت بعض التفصيلات بمعارضة فلسطينية وأردنية، ولم يلقَ بعضها الآخر ارتياحًا إسرائيليًا، على الرغم من الانحياز الأميركي الكامل لإسرائيل، إذ لم يرغب رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في تقديم أي التزام أو تعهد تجاه الفلسطينيين، مهما بدا ضئيلًا وشكليًا، ما أدّى إلى تأخيرٍ في إطلاقها، والعودة من جديد إلى نقاش أفكارها بما يرضي الطموح الصهيوني كليًا.
ثمّة انحياز وتواطؤ أميركي دائم مع الكيان الصهيوني، لكنّ هذه الإدارة تخطت جميع المواقف النظرية السابقة للإدارات الأميركية المتعاقبة، إذ لم تعد هناك مرجعية ما لعملية السلام. وثمّة تجاوزٌ لجميع قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، تحت شعار "ما يتفق عليه الطرفان". وحتى هذا الشعار سرعان ما اختفى، لتحل مكانه نظرية الحل الإقليمي بين العرب وإسرائيل، والذي سيفتح نافذةً صغيرةً للحل مع الفلسطينيين. وتناقضت التصريحات الأميركية بين من يقول باستئناف المفاوضات ومن يرى ألّا مبرر لها، ذلك أنّ حل القضية الفلسطينية ليس إلّا الجزء الصغير الهامشي من هذه الصفقة الكبرى.
ما نشاهده ونترقبه هو محاولة مرتبكة لفرض أمر واقع على الشعب الفلسطيني والأمة العربية. ويقوم هذا الحل على تكريس القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، وقد يتفتّق الذهن عن اختراع قدسٍ أخرى في بعض ضواحيها، بهدف ابتلاع نقمة العرب والمسلمين من هذا القرار. ومن هنا، ينبغي الحذر من تسمياتٍ مختلفة، مثل القدس الشرقية أو القدس الشريف، عند الحديث عن عاصمةٍ فلسطينية، فما هذه أو تلك إلّا محاولة بائسة لتمرير القدس عاصمة لإسرائيل، وإظهار تحقيق نصر وهمي.
في الضفة الغربية، تسعى الصفقة المفترضة إلى تكريس واقع الاستيطان والاعتراف بشرعيته، ما يعني عمليًا ضم 88% من مساحة الضفة الغربية والقدس إلى الكيان الصهيوني، وهي مساحة القدس الكبرى والمناطق التي يُطلق عليها منطقة سي، أي لن يتبقى للفلسطينيين منها سوى 12% في مراكز المدن الكبرى، ضمن جزر صغيرة ومنعزلة. وحتى هذه، في أحسن حالاتها، لن تتمتع سوى بشكل من الإدارة البلدية للسكان وليس للأرض، وستكون للقاطنين فيها صفة المقيم وليس المواطن. ولعلّ في التفكير الصهيوني ما يسمح لهؤلاء بممارسة شكل من الحقوق السياسية وحقوق المواطنة في الأردن وعبرها، وهو ما يسهّل تهجيرهم لاحقًا، ويبرّر حجم الضغط الذي يتعرّض له الأردن في هذه الفترة، لحمله على الموافقة على مثل هذه الصفقة.
ستكون غزة بين سندان الحصار والعقوبات ومطرقة الإغراءات المالية والوعود بتحقيق انفراجات اقتصادية وتمويل خليجي وكهرباء وماء وميناء ومطار ومشاريع استثمارية في سيناء. بمعنى أنّه يجري تصوير مشكلة قطاع غزة اقتصاديةً وإنسانيةً، وليست مشكلة احتلال وحصار. ويكون الحل منطلقًا من هذا الباب، عبر تشديد الحصار من جهة، لإجبار أهلها على القبول بحلول اقتصادية أو إنسانية جزئية تخفف من بعض جوانب معاناتهم اليومية، فهي سياسة العصا والجزرة التي تهدف إلى تركيع القطاع.
ما يسعى إليه العدو الصهيوني، مدعومًا من الولايات المتحدة الأميركية، هو أخطر من ذلك كله، فالغرض الأساسي لما يجري كله هو العمل على نزع صفة الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية، وإلغاء صفة المحتل عن العدو الصهيوني. ولكن، لن تستطيع الولايات المتحدة الأميركية، ولا إسرائيل، أن تغيّر القانون الدولي، ولا أن تتجاوز الشرعية الدولية إلى ما لا نهاية، وهما تدركان ذلك جيدًا، فالمواثيق الدولية كلها تنظم علاقة المحتل بالأرض والسكان في المناطق المحتلة، وهي بمجملها تدين أي انتهاكاتٍ وتجاوزات، بل وتعتبر معظمها، مثل تهجير السكان والاستيطان، جرائم حرب يحاسب عليها القانون الدولي، وهذا ما يفتقر العدو لإمكانية تغييره أو تعديله.
ولكن، ماذا لو تغيّرت صفة المناطق وصفة العدو، فلم تعد المناطق محتلة، ولم يعد العدو محتلًا؟ هنا تصبح لا قيمة لجميع تلك القوانين والقرارات التي اتخذت، أو التي سوف تُتخذ. وهنا تأتي خطورة حديث السفير الأميركي في إسرائيل عن شرعية المستوطنات التي اعتبرها مقامةً على الأرض التاريخية للشعب اليهودي، وهنا المعركة الحقيقية المقبلة.
ولدت "صفقة القرن" عرجاء، ونمت مرتبكة ومتعثرة، لأنّها ببساطة تفتقر إلى مبادئ الحق والعدل، وتداعب الحلم الصهيوني والرواية التوراتية، وتسعى إلى بناء إطار سياسي إقليمي هش، لن يصمد أمام رياح التغيير، وتصطدم بإرادة الشعب الفلسطيني والأمة العربية. ولعلّ جلّ ما نحتاجه لمواجهتها وإلحاق الهزيمة بها بعض من الإرادة والعزم والتصميم، ليكون مصيرها مصير عشرات من مشاريع التصفية التي مرّت واندثرت، وبقيت فلسطين وقضيتها.