استراتيجية احتكار "العمالة" عربياً

23 يونيو 2018

(Getty)

+ الخط -
فوجئت الأوساط السعودية والعالمية، في بداية شهر رمضان الماضي، بحملة اعتقالات واسعة، استهدفت ناشطات مجتمع مدني، عرفن بقربهن من توجهات العهد الجديد في السعودية. ومما ضاعف من الدهشة أن النظام أتبع الاعتقالات بحملةٍ إعلاميةٍ شرسة، وجهت للناشطات تهما بالضلوع في "عمل منظم للتجاوز على الثوابت الدينية والوطنية، والتواصل المشبوه مع جهاتٍ خارجيةٍ في ما يدعم أنشطتهم، وتجنيد أشخاصٍ يعملون بمواقع حكومية حساسة... بهدف النيل من أمن واستقرار المملكة وسلمها الاجتماعي والمساس باللحمة الوطنية". ونشرت الصحف صور المعتقلات (والمعتقلين، فقد طاول الاعتقال رجالاً كذلك)، وقد طبع عليها أو بجوارها بأحرف كبيرة "خائن".
وقد زاد من الاستغراب، خصوصاً في الأوساط الغربية، أن الناشطات والناشطين المعنيين يتوافقون مع توجهات النظام الجديد في معاداة الإسلاميين، ويدعمون "إصلاحاته" الليبرالية، بخلاف الزعامات الإسلامية التي استُهدفت في السابق. ولكن الملاحظ أن اعتقالات الإسلاميين لم يتبعها تشهيرٌ مماثلٌ أو اتهامات بالخيانة، وإن كانت تهم "الإخوانية" وغيرها جاهزة. وكان مصدر الاستغراب الأكبر أن التهمة بالتواصل مع "جهاتٍ خارجيةٍ" يشير إلى عين الجهات الغربية التي يخطب ودها العهد الجديد، وهو يسوّق نفسه تحت لافتة الإصلاحات الليبرالية، فكيف يكون التواصل مع الجهات الداعمة للنظام (وليس مع إيران، أو، لا سمح الله، قطر) "خيانة"؟
يبطل العجب إذا علمنا أن التوجس من تواصل الناشطين الليبراليين تحديداً مع الغرب هو هوسٌ قديمٌ لأنظمة التحالف المصري - الخليجي، كما يظهر من حملاتٍ مصريةٍ بدأت منذ مطلع 
الألفية الميلادية الثالثة، استهدفت، في من استهدفت، الناشط الحقوقي والمدني، سعد الدين إبراهيم، الذي اعتُقل في يونيو/ حزيران 2000 مع زملاء له، بعيد إعلان مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية الذي كان يرأسه عن مشروعين، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، للتوعية الانتخابية، ورصد انتخابات سبتمبر/ أيلول 2000 البرلمانية. ودانت محكمة أمن الدولة العليا المتهمين في مايو/ أيار 2001 بتهم شملت تلقي أموالٍ من جهةٍ أجنبيةٍ بدون ترخيص، و"إذاعة معلومات كاذبة وشائعات مغرضة، بهدف الإساءة إلى سمعة مصر ومكانتها في الخارج"، و"الاستيلاء بطريق الاحتيال على مبالغ مملوكة للاتحاد الأوروبي". وشملت التهم لعاملين في المركز المساعدة في عملية نصب، وتقديم وقبول رشىً وتزوير محرّراتٍ رسمية. وحكم على إبراهيم بالسجن سبع سنوات، وتم تأكيد الحكم في محاكمة ثانية في يوليو/ تموز 2002، بعدما ألغت محكمة النقض الحكم الأول، ثم أطلق سراح إبراهيم بعد فترة تحت ضغوط أميركية قوية، لكنه ظل هدفاً للسلطات المصرية الأمنية والقضائية، واضطر لمغادرة مصر بعض الوقت.
وكان الاتهام بتلقي أموال من جهات أوروبية وأميركية وقتها مثار استغراب، علماً أن الحكومة المصرية نفسها تتلقى دعماً سخياً من تلك الجهات، بل إن جزءاً كبيراً من الدعم الأميركي كان يأتي مباشرة للجيش المصري، ولا يشمل فقط التمويل والتسليح والتدريب. شمل الدعم أيضاً إرسال ضباط الجيش إلى الولايات المتحدة فترات طويلة، وثقوا خلالها صلاتهم برصفائهم الأميركيين. وقد لعبت هذه الصلات دوراً مهماً في إدارة الولايات المتحدة لتدخلاتها في ثورة يناير 2011، حيث تم التواصل مباشرة مع قيادات الجيش لحثها على عدم ضرب المتظاهرين، والتفاهم على التخلص من حسني مبارك.
ولكن بدا واضحاً عندها أن استهداف إبراهيم، وناشطين آخرين في المجال المدني، يهدف إلى قطع الطريق على ظهور تيارات وأشخاص مدنية تكسب ثقة الغرب، ويمكن أن تشكل بدائل يُلجأ إليها إذا أراد أن يسحب دعمه للنظام الذي ظل يروّج أن البديل له هم فقط الإسلاميون. وعليه، فإن توجس الأنظمة من بديل ليبرالي يأنس له الغرب يظل أكبر من توجسه من الإسلاميين، وبقية العناصر المغضوب عليها غربياً، بل إن وجود المعارضة الإسلامية هو أحد أهم ضمانات بقاء الأنظمة مدافعا متطوعا عن مصالح الغرب في المنطقة.
ويتأكد هذا من استهداف النظام المصري الحالي الناشطين المدنيين والحقوقيين بصورة تعسفية، بمن في ذلك عدد كبير من مؤيدي الانقلاب، وما يصاحب ذلك من حملات تشويه إعلامي لهؤلاء الناشطين بأنهم يحرّضون الغرب ضد الأنظمة، بل إن دور الشخص أو المجموعة في دعم ثورة يناير والثورات العربية الأخرى أصبح الآن من أكبر التهم (على الرغم من أن دستور مصر ينص على أن الثورة مصدر شرعية أساس).
ولم تتورّع الأنظمة التي تدّعي "الممانعة والمقاومة" عن المنافسة في هذه الساحة، كما يظهر من عزوف النظام السوري عن استهداف الجماعات المتطرّفة، وتركيزه على محاربة المعارضة "المعتدلة"، فهو يحتاج إلى هذه الجماعات (صنع ودعم وأدار بعضها في سعيه إلى تقويض المشروع الأميركي في العراق) لتخويف الغرب، ولتأكيد روايته الأصلية في أن الثورة السورية هي جوهرها حركة متطرفين.
ما حدث ويحدث في السعودية إذن لا يجب أن يكون مصدر استغراب، بل هو جزء من 
استراتيجية عربية شبه رسمية، يمكن تسميتها "استراتيجية احتكار العمالة"، فمثلما أن الدولة ينبغي أن تحتكر العنف الشرعي، فهي يجب أن تحتكر "العمالة" للخارج، وأن تصبح الوكيل الحصري لقوى الهيمنة الأجنبية في المنطقة، ولا تقبل أي مشاركةٍ في هذه المهمة. ذلك أن هذه الدول تفهم أن مصدر مشروعيتها هو الخارج، وليس الداخل، ما يدفعها إلى أن تركز على تسويق نفسها أنها أفضل من يخدم مصالح الخارج. ولهذا، فإن ظهور جهات تسوق نفسها تحت هذه اللافتة، حتى بصورة غير مباشرة، يمثل أكبر تهديد للأنظمة، ما يحتم اتخاذ إجراءات حازمة لتدمير أي علاقة محتملة بين الغرب وقوى اجتماعية داخلية في المهد.
وفي هذا درس مهم للإصلاحيين من ليبراليين وإسلاميين وغيرهم، وهو أن الاستناد إلى أنظمة استبدادية، مهما كان توجهها، توجه انتحاري، لأن هذه الأنظمة لا تقبل من يكدّر سلطتها المطلقة، كما أنها ترى في كل داعم منافساً، لا شريكاً. وفضلاً عن أن تسعى هذه الأنظمة إلى الاستقلالية، فإنها تكرّس التبعية منهجاً ومذهباً، لأن البديل للتبعية هو إشراك الشعوب في إدارة شأنها، ولكن دعاة الاستبداد يفضلون الركوع للأجنبي، والتجاوب مع مطالبه غير المشروعة، على التودّد لابن الوطن، والاستجابة لمطالبه المشروعة في الكرامة والعدالة. فهم يختارون استعباد المواطن، حتى لو كان الثمن أن يبقوا عبيداً للخارج، بدل الكرامة في وطن كريم بين مواطنين لهم كرامتهم.
في المقابل، ينبغي أن يكون خيار المواطن الحر الكريم رفض هذه العبودية المركّبة، وأن يمتنع عن الدخول في منافسات العمالة والخيانة، ويتوجه، عوض ذلك، باتجاه منافسات العز والكرامة، للوطن والمواطن معاً. فلا كرامة لمواطن إلا في وطن عزيز، ولا كرامة ولا عزة لوطن إلا في عزة وكرامة مواطنيه.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي