عن الأردن الذي بالكاد بتنا نعرفه؟

21 فبراير 2018
+ الخط -
هل كان الأردنيون ينتظرون انعقاد مؤتمر "أجندة الأردن 2018.. سياسات تكريس الاعتماد على الذات"، الذي نظمه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية على شاطئ البحر الميت، مطلع فبراير/ شباط الجاري، حتى يتأكدوا بشهادات الخبراء أن واقعهم محبط و"يوجع القلب"؟
لم يأت المؤتمر بجديد لا نعرفه، لكن أهميته في المفاتحات التي بادر إليها عديدون من رموز النخبة الحكومية، ولعل أبرزها تساؤلات السياسي المخضرم، عدنان أبو عودة، "ماذا فعلتم بالدولة، ولماذا وصل القطاع العام إلى كل هذا الترهل، ولماذا ارتفعت المديونية إلى هذا الحد؟ ولعل هذه التساؤلات هي الأهم، وهي متعلقة بعنوان المؤتمر: الاعتماد على الذات، إذ يقول: هل قرار الاعتماد على الذات، بعد قرن على بناء الدولة، قرار اضطرار أم هو قرار اختيار؟ وقد أجاب أبو عوده على سؤاله، بقوله إن الدولة الأردنية ما زالت طفلاً رضيعاً لم يفطم بعد، وخلص إلى أن "البكائية" التي أطلقها محللون عديدون عن تراجع الدور الإقليمي للأردن، ما هي إلا تعبير عن الخوف من انقطاع الرضاعة أو الفطام، ملمحاً إلى المخاوف من تراجع المساعدات الخارجية أو انقطاعها.
وكما أوجز تقرير في صحيفة الغد الأردنية وقائع المؤتمر بأنها "خوض في أسئلة عميقة ومحرجة عن الذات الأردنية الجريحة"، وانتهى إلى طرح مزيد من الأسئلة عن مصير سلة 
التوصيات والخيارات التي عكفت عليها لجان المؤتمر السبع: من نوع: هل سيتم العمل على تنفيذها، ومتى، وهل لدينا ترف الوقت، أم ستكون بمثابة صرخة في واد أو نفخة في رماد؟
المدهش في الأمر أن تدهش النخب الحكومية الأردنية وتستغرب من الحال التي وصلت إليها البلد، وكذلك هو حال النخب الإعلامية والحزبية التي يبدو أنها فوجئت بحجم الخراب الحاصل، والذي أصاب الحضور بوجع القلب، حسب تعبير الكاتب في "الغد"، فهد الخيطان، على الرغم من أن مؤشرات الخراب والتراجع كانت تتوالى على مدار الأعوام الماضية، وتتسارع وتائرها يوماً بعد يوم.
لم تقفز مديونية الأردن إلى 37,4 مليار دولار فجأة، ولم تبلغ نسبتها ما يزيد على 94% من الناتج المحلي الإجمالي، من وراء ظهر الحكومات المتعاقبة، وإنما بقرارات واعية منها، وهو ما يضع الأردن في مقدمة قائمة الدول الأعلى مديونية، حسب تقرير التنافسية العالمي. ولم يتضخم العجز في الموازنات الحكومية لولا ضعف (وتخاذل) الإدارات (اقرأ الحكومات) المتتالية في اتخاذ القرارات الاقتصادية اللازمة، حسب تعبير وزير المالية الأسبق، أمية طوقان، والذي أكد وجود هدر مالي في الموازنة يتجاوز 20%، بسبب التغيير المستمر في المشاريع الرأسمالية والإعفاءات الطبية وغيرها من الأسباب.
ولم يأت محافظ البنك المركزي، زياد فريز، بجديد أيضاً عندما تحدث عن الإعفاءات الضريبية التي كلفت الدولة ثلاثة مليارات دينار في السنة المنصرمة، ناهيك عن التهرب الضريبي الذي استنزف مبالغ كبيرة من الإيرادات المحلية للموازنة، قدرت بنحو 1578 مليون دينار أردني في عام 2015، حسب المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأردني.
لم تطرح عناوين غير معروفة لتشخيص الأزمات والتحديات، فالأردن "بحمدالله"، يواجه اليوم تحديات بالغة الأهمية "على الصعد كافة"، بتعبير مدير مركز الدراسات الإستراتيجية، موسى شتيوي. ففي المجال الاقتصادي، هناك المديونية والعجز المالي في الموازنة، وارتفاع الأسعار والبطالة. وهناك تحدي جذب الاستثمار؛ في ضوء عدم الاستقرار الإقليمي والصراعات والنزاعات المحيطة، ما يرفع من منسوب التحديات والصعوبات، ويولد أزمة ثقة ومصداقية بين الحكومة والشارع، كما أوضحت ذلك استطلاعات المركز أخيرا، والكلام لا زال لشتيوي. ومن غير المعروف بعد بماذا خرجت اللجنة المشكلة لصياغة التوصيات من أفكار، قد تسهم في رفد الحكومة بحلول وبدائل مناسبة.
مصدر الإحباط الذي تولد لدى المؤتمرين على شاطئ البحر الميت هو الهوة الواسعة التي 
تفصل الواقع الأردني الراهن عن بلوغ (أو حتى استشراف) سياسات الاعتماد على الذات، وهو الشعارالذي طرحه الملك عبدالله الثاني، في افتتاح الدورة العادية لمجلس الأمة الأردني قبل أشهر، فالواقع يقول إن الأردن يعيش حالة من التبعية المفرطة للخارج، تبعية بنيوية ناجمة عن إهمال الاختلالات والتشوهات التي رافقت مسيرة الدولة الأردنية منذ نشوئها المبكر، مطلع عشرينيات القرن العشرين، وتعاظمت أكثر فأكثر في العقدين الأخيرين. ولهذا، يبدو شعار "الاعتماد على الذات" كما لو أنه "قفزة في الهواء"، أو محاولة هروب إلى الأمام. فالاعتماد على الذات هو بمثابة حلم جميل لا تتوفر له حالياً ركائز واقعية. وحسب تعبير زياد فريز: "لم نكن نلعب خلال سبعين عاماً من عمر الدولة، لكن يجب الاعتراف بأننا لم نبذل الجهد الكافي لمواجهة تحدي الاعتماد على الذات".
في الوقت الذي يغيب فيه الحوار عن الفضاء السياسي الأردني، تظهر أهمية "حوارات البحر الميت"، وما تخللها من مفاتحات ومصارحات. لكن يُخشى أنه لم يتبقّ لدى الأردنيين وقت كثير لإضاعته في مزيد من الحوارات التي يشكك المشاركون فيها في إمكانية ترجمة مخرجاتها إلى أفعال، حيث يعرف القاصي والداني أن المسألة المحك ليس الافتقار إلى حلول، وإنما الافتقار إلى الإرادة السياسية اللازمة لتحويل "الاعتماد على الذات" من شعار رومانسي إلى سياسات تنفيذية.
نقول ذلك وفي الأذهان سلسلة من الاحتجاجات الشعبية والحراكات المطلبية التي تتصاعد أسبوعياً، وتنحو أكثر فأكثر نحو العنف (كما حال تظاهرات الكرك أخيرا). والمطلوب تغيير سياسي يستبق الانفجار الذي لا يريده أحد... تغيير يتجاوز "لعبة تبديل الطواقي" إلى امتلاك القدرة على استعادة الثقة الشعبية بالدولة والمؤسسات السياسية كافة.
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
هاني حوراني

باحث وناشط سياسي أردني باحث، مؤسس مركز الأردن الجديد للدراسات منذ 1990. له مؤلفات في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والتنمية الديمقراطية. يجمع، أخيراً، بين النشاط السياسي والممارسة الثقافية والفنية.

هاني حوراني