مسيرات العودة باقية وتتعقلن

23 أكتوبر 2018

العلم الفلسطيني والمقلاع في المسيرة الثلاثين للعودة (22/10/2018/فرانس برس)

+ الخط -
لم يشتر أيٌّ من المراقبين الموضوعيين على جانبَي الصراع، بقشرة بصلة جافة، كل تلك التصريحات والتهديدات الحربية التي تواترت على ألسنة القادة الإسرائيليين في الأيام القليلة الماضية، ولم يأخذ أحدٌ من هؤلاء وأولئك مشهد حشود المدرّعات، حول قطاع غزة، على محمل الجد برهة واحدة، لا سيما من يعرفون، بحكم خبراتهم المتراكمة، مجّانية سياسة "الفم الكبير" ومغزى التكتيكات الإسرائيلية التصعيدية، الرامية إلى إملاء موقف ما، أو تحقيق مكاسب سياسية معينة، من دون الاضطرار إلى المجازفة بخوض مواجهةٍ قد تكون مكلفة، ولا تغيّر من الأمر شيئاً.
ولعل أكثر من وقفوا على حقيقة هذا المشهد المركّب بلا عناية، وكشفوا السر المعلوم للعامة والخاصة، كانوا كبار المعلقين في الصحف الإسرائيلية، ممن قالوا عن قادتهم، وبشيءٍ من التهكّم، إنهم يتحدّثون عن الحرب فيما الوجهة نحو عقد تسويةٍ، ولو مؤقتة، وإن التهديد والوعيد بالمعركة المؤجلة يستبطنان ميلاً مضمراً نحو احتواء الموقف، وعدم التنفيذ في المدى المنظور، وبالتالي كان مشهد حشد الدبابات، وبثّ الصور على وسائل الإعلام، مشهداً مصمماً بالأساس لمنع المواجهة، لا التعجيل بخوضها، طالما أن الطرفين المتقابلين لا يرغبان في القتال المفضي على الأرجح إلى النتيجة القائمة نفسها.
على خلفية هذا المشهد المقروء جيداً من المخاطَبين به، جرت وقائع الجمعة الثلاثين لمسيرات يوم العودة، وفق ضوابط ذاتية شبه معلنة، حتى لا نقول شروطاً متبادلة، التزمت حركة حماس بموجبها، عبر وسيط، أو أكثر، إبعاد المتظاهرين مسافة خمسمائة مترا عن السياج الفاصل، مقابل وعد إسرائيلي بإعادة إمدادات النفط وتوسيع مساحة الصيد، وعدم الإفراط في استخدام القوة، ومن ثمّ الرجوع إلى المفاوضات حول التهدئة المنشودة، إذا تم ضبط الميدان وعدم إطلاق البالونات الحارقة، وهو ما جعل مسيرة يوم الجمعة الماضي واحدةً من المسيرات النادرة التي لم يسقط فيها شهيد واحد، ولم تدم سوى ساعتين.
وبمثل هذه الحصيلة طفيفة الكلفة، المرحّب بها داخل غزة وخارجها، استردّت مسيرات العودة التي تعرضت للانتقاد أخيرا، وبأصواتٍ وطنيةٍ مرتفعة النبرة، طابعها الكفاحي الأول، كنضال جماهيري سلمي مقاوم لا يتوسّل العنف، وذلك على نحو ما بشّرت به قبل انطلاقها منذ سبعة أشهر دامية. كما بدت اللجنة العليا لهذه المسيرات أكثر نضوجاً وأعمق حكمةً مما كانت عليه في الفترة السابقة، تقيم وزناً للعامل الذاتي المنهَك، وللتوازنات العسكرية والسياسية المختلّة بشدة، وفوق ذلك تأخذ في الاعتبار حساب الربح والخسارة، أي المقارنة بين الثمن المدفوع والنتيجة المرجوّة، خصوصاً وأن الهدف فك الحصار وليس تحقيق العودة، كما توحي دلالة اسم "مسيرات العودة".
ويبدو أن الثمن الباهظ الذي دفعه الغزّيون البواسل (أكثر من مائتي شهيد وأزيد من عشرين ألف جريح) قد حمل القائمين على أمر هذه المسيرات إلى القيام بمراجعة داخلية، أفضت، في نهاية نقاش مسؤول، إلى ضرورة الكفّ عن المضي في خيار الموت المجاني، والامتناع عن منح الذئاب المتوحّشة الذرائع المفتعلة لمواصلة استباحة الدم الفلسطيني، وسط حالة عدم اكتراثٍ عربيةٍ ودوليةٍ شائنة، خصوصا وأن النتائج المتواضعة لهذه التضحيات الثمينة لم توظّف في خدمة أهداف وطنية عليا، أو مصالح سياسية جامعة، وإنما لخدمة مصالح فئوية، كادت تفضي إلى تحويل الانقسام إلى انفصال دائم، أفصحت عنه التدخلات الأميركية الرامية إلى جعل غزة نقطة انطلاق صفقة القرن المشبوهة.
وهكذا بدت المسيرات في جمعتها الثلاثين، وبعد أن استفادت من تجربتها الذاتية المرّة، أكثر نضوجاً وتعقلاً من ذي قبل، بل وأشد قابلية للاستمرار وفق إيقاع ملائم للظروف الغزّية الخاصة، الأمر الذي يحفظ لهذه الظاهرة الكفاحية الزخم اللازم لمواصلة الاشتباك مع الاحتلال بوتائر كافية. كما بدت النقاشات المتصلة بهذا الحراك الشعبي النبيل تتّسم بالواقعية، وتنحو منحى الاعتدال، بعيداً عن الشعارات المرفرفة عالياً في سماء التوقعات المرتفعة، بما في ذلك تلك المبالغات القائلة إن هذه المسيرات قد أعادت الزخم إلى القضية الفلسطينية، وفرضتها على أجندة الاهتمامات الدولية، وغير ذلك من التمنيّات الأخرى.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي