خديعة "المقامات" والشيخ ترامب

17 يناير 2018
+ الخط -
استطاع هربرت دوبرفيلد "اليائس من كل شيء"، أن يتحول في رحلة وجودية إلى "الخواجة عبد القادر"، بعد أن وصل إلى صحراء السودان، ثم إلى صعيد مصر للعمل مع إحدى الشركات الوافدة المتخصصة في بناء الخزانات، وتعرف إلى شيخ صوفي من "المكاشفية"، إحدى القبائل النوبية، ليقطع على يده رحلته، الأكثر أهمية، من المسيحية إلى الإسلام.
وفجأة، وبعد أن تشبّع بقيم الحياة الجديدة، امتلأ قلبه بحب الله وحب زينب التي تزوجته خلافاً لرغبة أخيها، فما كان من الأخير إلا أن سجنهما داخل المنزل، قبل أن يحرقه بمن فيه. وحين اكتشف الناس أنهما اختفيا بين النار والرماد، من دون أن يتركا أي أثر، أصبح الخواجة الصوفي في نظر العامَّة صاحب معجزات، فكان له المقام والمزار والكرامات.
وعلى الرغم من الغموض الشديد، وتضارب السرديات، بشأن شخصية عبد القادر وترتيب الأحداث، التي انتهت بملابسات موته أو رحيله، إلا أن مؤلف الدراما المصرية، ومعه بعض الرواة والكتاب، يؤكدون أن لشخوص تلك الدراما "أرواحا حقيقية"، وأن الأحداث ليست جميعها من نسج الخيال. وبغض النظر عن المضمون الانساني لقصة عبد القادر، إلا أن المقام (؟) الذي شُيّد له في مكان ما في السودان أو في مصر من دون قبر حقيقي، وإن أصبح منسيا، لا يخرج عن سياقات بعض الخدع الروحانية المتكرّرة في أماكن متفرقة.
منح الله العرب بلاداً واسعة، وجعل منها أرض الديانات والتواريخ المتسلسلة والأساطير. مرت عليها الأزمنة وتقلباتها، حتى وصلت إلى حاضرٍ فيه كثير من الكآبة والعجب. ومثلما لا يوجد 
"خواجة عبد القادر"، بقلبه الطيب، إلا شخصية درامية، فإن الصحاري العربية لم تعد تتحلى بفطرتها الأولى، ولم يعد لها ولشعوبها قيمة تذكر إلا بمقدار الأبراج المعدنية المتناثرة على وجهها، لاستخراج ما يخزّنه جوفها من احتياطاتٍ تلوي عنق "خواجات" العصر السابحين في العوالم الرقمية.
هل هذا كل شيء عن المقامات وحكاياتها؟ بالطبع لا، فهناك المزيد، ويمكن لبعضها أن تُعرض بشكل ملهاة بفصولها شديدة الغرابة، خصوصا إن تم ربطها بأحداث كبيرة في الحياة، ويمكن الإشارة إلى واحدة منها:
ففي حدوثة حقيقية، يزور أبناء القبائل البدوية في جبال العين السخنة قرب السويس مقام "سيدي أبو سريع"، ويحملون الهبات والهدايا والتبرعات لصندوق النذور. يأتونه منذ أربعين عاما من أماكن عديدة، ليتباركوا به، واهمين بأنه يحقق لهم أمنياتهم، أو يمسح عنهم أدرانهم، ويفك عقدهم ويقيم عثراتهم في الحياة. ولما كان للمقام جدوى اقتصادية تزيد أهميتها مع الزمن، اختلفت القبائل المتجاورة على أحقية تبعية المكان، ثم اتفقوا على نقل رفاته إلى مكان محايد يشتركون فيه، فكانت المفاجأة الصادمة: إذ لا يوجد في القبر تحت القبة سوى رأس عجل.
وبالطبع، لم تكن هناك أي ضرورة بحثية أو معرفية لإعادة تصميم العجل لمعرفة شكله وحجمه ولونه وزمانه، كما يفعل الغرب في نبش أجزاء الديناصورات، وجمعها وتركيبها، ووضعها في المتاحف. ليس لأن ذلك العجل العربي غير جدير بالتصنيف، ولا يملك نظيرا أحفوريا قديما في باطن الأرض. ولكن لأنه لا يحتاج إلى علماء وباحثين، ليثبتوا أنه ليس "سيدي أبو سريع". فكانت "خيبة الرجاء" التي أضحكت القبائل الفقيرة، وأبكت القائمين على الصندوق.
على أي حال، أيها القارئ العربي الكريم، لا يستطيع أحدٌ أن يسخر من أولئك البسطاء أصحاب "رأس العجل"، فلا يسخر قومٌ من قومٍ عسى… وفي الحياة ما هو أدهى وأمرّ من تلك الحدوثة الآتية من بيئةٍ ريفيةٍ بسيطةٍ ونائيةٍ، وربما معزولة، لأن "الكبار جداً" يفعلونها أيضاً بطرقٍ أكثر حداثةً، وربما بعقول ناضجة، واستراتيجيات مطبوخة على مواقدهم الثرية.
فلدى بعض الزعماء العرب "مزارهم" الخاص، البيت الأبيض، يقبع تحت قبابه رأس خواجة قائم بنفسه على صناديق النذور، ولكن هذه المرة بأرقام فلكية، تتناسب مع أحجامهم وأحلامهم وحاجاتهم للبقاء على الكراسي الشاهقة، يحملون إليه عطاياهم وأموالهم بمسميات مختلفة، مقابل وعود بالأمان والسلامة من المخاطر والأوجاع، "ملفوفة" بخطاب مفتوح على "الهواء البحري"، في مقايضةٍ لا تختلف نظرياً عن الطقوس العامة لزيارة المقامات للفوز ببركات الأموات المزعومة.
ذهب الخواجة عبد القادر في رحلته إلى السودان ومصر، وتحول بعد رحيله إلى استثمار 
روحي وأدبي، ولم تطوِ الصحراء حكايته، بل حولتها إلى خرافةٍ، ربما مجسدة بمزار صغير في مكانٍ ما، وقدمته الدراما المصرية بصورة الإنسان الملاك الذي أسر قلوب الناس. وفي مكان ليس بعيدا عن تلك الأرض، استثمر الإسرائيليون خواجة البيت الأبيض "الشيخ ترامب" روحيا وعقائديا وماديا وسياسيا…إلخ، مباشرة، بعد أن نفخ العرب جيوبه بأموالهم في معادلة لن يفهما الباحثون في العلوم السياسية في العصر الحديث، إلا من خلال قراءة سيكولوجية "الحكام العرب" الذين يهبون كل شيء مقابل الرضا عنهم، وشراء الوهم، خصوصا أن العالم كله يفهم حقيقة الرجل ذي الشعر الأصفر، المهرّج التويتري، بأنه جامع الأموال وفاقد للأهلية.
ويحق للعربي الذي احترف اليأس في العقود الأخيرة أن يجد دلالات الحكايات متشابكةً بين خديعة مقام أبو سريع وخديعة الشيخ ترامب الذي لم يمض نصف عام على رحلته الشهيرة إلى الشرق الأوسط وفوزه بأكياس الذهب، حتى أعلن وعده المشؤوم لدولة إسرائيل المغتصِبة بمنحها مدينة السماء، القدس.
وهكذا سيحتاج العربي، وبشكل مستمر، إلى "الوقوف العبقري" في حياته المعاصرة أمام أمثولات "رأس العجل ورأس الشيخ ترامب"، ويتعلم الكثير منها.
AAB015A3-241D-4B6E-BA3E-DBC2E98F4649
أحمد عبد اللاه

كاتب يمني ومختص في قطاع البترول، يقيم في كندا