ازدواجيّة الإفتاء في تونس ومصر

28 اغسطس 2017
+ الخط -
يُفترَض في مؤسّسة الإفتاء أن تشرح للنّاس أمور دينهم، وأن تُبين لهم أحكامه، وتُفصّل لهم ما أشكل عليهم من تعاليمه، وأن تنأى بنفسها عن التحزّب أو التعصّب أو الانحياز إلى طرف سياسي أو طائفي أو عرقي أو طبقي على حساب آخر. واستقرّ الإجماع عند علماء الإسلام على أن يكون المفتي صادقا، نزيها، بعيدا عن الأهواء، وأن يُدليَ برأيه في المسائل الخلافية من دون أن يحتكر النّظر في الشأن الدّيني، ومن دون أن يمارس الوصاية على عقول النّاس واجتهاداتهم. والواقع في تونس ومصر خلال هذه الأيّام خلاف ذلك، فالمتابع لتفاعل مؤسّستي الإفتاء في البلدين مع مقترَح الرّئيس الباجي قايد السبسي، المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى في تونس، يتبيّن ازدواجيةً ظاهرة في سلوك المشرفين على مسؤولية الإفتاء في القُطرين. ففي تونس، سارع ديوان الإفتاء إلى مباركة المبادرة الرّئاسية والثناء عليها، وانصرف المفتي عثمان بطيخ يبذل جهده في تمجيد التوجّه الرّئاسي، وتزكيته، والتشريع لوجاهته. ولم يُكلّف نفسه عناء السؤال: لماذا تمّ تعيين لجنة للنّظر في هذا الغرض، ولم تشتمل في عضويتها ممثّلا لجامعة الزيتونة، ولا للمجلس الإسلامي الأعلى، ولا لنقابة الأئمّة؟ ولماذا تمّ طرح هذه المسألة الخلافية في هذا التوقيت؟ أليس ذلك ناتجا من خلفيات انتخابية وأغراض سياسوية، وعن رغبة في إلهاء الناس عن قضايا أخرى أكثر أهمّية؟ وهل، يا تُرى، ستؤدي المبادرة إلى تجميع التونسيين أم إلى تفريقهم؟ وهل هي من أولويات المواطنين اليوم قبل مكافحة الإرهاب والبطالة وتراجع الدينار وارتفاع الأسعار؟ وهل تراها ستؤدّي إلى تزايد شعبية السبسي أم إلى انحسار عدد أنصاره؟

لم تخطر هذه الأسئلة وغيرها على بال المفتي، أو هو تجاهلها، وانخرط في جوقة تمجيد المقترح الرّئاسي. والمفارقة أنّ المفتي عثمان بطّيخ الذي أحلّ، أخيرا، إعادة النّظر في أحكام الميراث هو نفسه مَن أفتى بتحريم ذلك خلال شهر يونيو/ حزيران من السنة الماضية، في معرض ردّه على دعوة النائب مهدي بن غربية إلى المناصفة بين الجنسين في تقسيم الميراث، فصرّح بطّيخ وقتها: لا يجوز الاجتهاد في هذه المسألة، لأن النص القرآني صريح في ذلك وحسم فيها. .. وأوصى بطّيخ بعدم الخوض في هذا الموضوع، لأنه "سيفتح المجال للمتطرفين لاستغلاله ضد تونس، بدعوى أنها خارجة عن شرع الله، والبلاد في حاجة إلى التهدئة"، فبدا واضحا عدم استقرار مفتي الجمهورية التونسية على رأي واحد في هذا الشأن الجلَل. وأخبر ذلك بازدواجية خطابه في هذا الخصوص، ويُخشى من أن يؤدّي تباين رأيه في هذا الأمر إلى التلبيس على جموع المسلمين في البلاد. والظاهر أنّ الرّجل يميل حيث مال الرّئيس، ولو أدّى ذلك إلى أن يُناقض نفسه. وهذا السلوك غير مستغرب من عثمان بطّيخ الذي كان مفتي البلاط على عهد المخلوع زين العابدين بن علي، وسكت على مظالمه، ولم يُبد اعتراضا على منع الحجاب زمن حكمه بموجب المنشور 108. وذلك دالّ على أنّ مؤسّسة الإفتاء في تونس لم تتمتّع بالاستقلالية والحياد قبل الثورة وبعدها، ما قلّل من صدقيّتها وعزّز الفجوة بين المؤسّسة الدينية الرسمية ومعظم التونسيين.
أمّا في مصر، فتلقّفت المؤسّسة الدينية مقترح السبسي التسوية في الميراث بين الرجل والمرأة في تونس بشغف غير مسبوق، وكأنّ الأمر شأن مصري، وتتالت بيانات وكيل الأزهر، وشيخ الأزهر، ودار الإفتاء المصرية، وكأنّ تونس خِلو من علماء الدين أو هي حديثة عهد بالإسلام. والتقت تلك البيانات عند تحريم مبادرة السبسي في الميراث، شكلا ومضمونا. واستجمع شيوخ مصر في الاستدلال على ذلك أقطار الكلام والحجج النقلية على اختلافها، وعدّوا مقترح الرّجل ودعوته التونسيين إلى الاجتهاد في المسألة "تغييرا لنصّ قطعي الثبوت والدلالة"، و"تبديلا لشرع الله". وتلقّفت العامّة تلك الفتوى، لتنخرط في موجة تكفير السبسي ومجلس نوّاب الشعب والدّولة التونسية كافّة. وأثار ذلك استياء معظم التونسيين ممن أيّدوا مقترح السبسي أو عارضوه، واستغربوا تدخّل الأزهر في مسألةٍ جدالية داخلية تونسية، واستهجنوا فتوى الديار المصرية في شأن مبادرةٍ مازالت مدار حوار، ومحلّ أخذ وردّ داخل الاجتماع التونسي. واندهش آخرون من لهفة المؤسّسة الدينية المصرية على مصادرة حقّ التونسيين في الحوار والاختلاف حول نصوصٍ قانونيةٍ، تضمّنتها مجلّة الأحوال الشخصية التونسية، ويبقى تعديلها من عدمه من اختصاص علماء الدين ورجال القانون في تونس ونوّاب الشعب، ومن نظر نشطاء المجتمع المدني وعموم التونسيين دون غيرهم.
ومدار المفارقة أنّ شيوخ الإفتاء في مصر قد نطقوا وأسهبوا وأفتوا في شأن مبادرة السبسي، في حين أنّهم لم يلتفتوا إلى انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، ولم ينبسوا ببنت شفة إزاء حوادث قتل المعارضين، وتعذيبهم وتغييبهم داخل السجون المصرية. فهل مبادرة السبسي في
الميراث أخطر من قتل مئات المتظاهرين السلميين في ميادين الاحتجاج في أرض الكنانة؟ وهل مقترح السبسي أخطر من اعتقال إعلاميين وحقوقيين وسياسيين ونساء وأطفال وشيوخ في مصر؟ ثمّ لماذا لم نسمع صوتا لشيوخ الأزهر، أو مؤسّسة الإفتاء المصرية، في إدانة حوادث الاختفاء القسري والقتل خارج إطار القضاء في مصر الشقيقة؟ ولماذا لم نسمع لهم رأيا في إدانة غلق معبر رفح شهورا ومنع قوافل الغذاء والدواء من المرور إلى قطاع غزّة؟ أم أنّ إهدار النفس البشرية أهون من مبادرة السبسي؟
يبدو أنّ رموز المؤسّسة الدينية في مصر قد استسهلوا الخوض في شأن تونسي، لعلمهم أنّه مسلك آمن، لن يُكلّفهم الويلات والمعتقلات، وكذا لشوقهم للظهور في موقع حامي الحمى والدّين، ونسوا أنّهم، بتصدّرهم الفتوى في هذا المشغل، استنقصوا من كفاءة علماء الإسلام في تونس، وظهروا في مظهر مؤسّسةٍ بابوية قديمة، تحتكر النظر في الدين، وتمارس الوصاية على عقول التونسيين.
والثّابت مما تقدّم أنّ مؤسّستي الإفتاء في تونس ومصر تمارسان الازدواجية، وتوظّفان الدين لخدمة الفريق الحاكم، والحاجة أكيدة اليوم لإصلاحهما، والتمكين لاستقلاليتهما وحيادهما وتخليصهما من شوائب الأهواء السياسية.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.