العرب والارتباك المتواصل

17 اغسطس 2017
+ الخط -
رسمت انفجارات 2011 الحاصلة في بعض البلدان العربية إمكانية انخراط المجموعة العربية في تدشين بدايات عهدٍ جديدٍ، يبشر بميلاد مجتمعات الحرية والتقدم، وينقل شعارات الإصلاح التي تغنَّت بها أجيال عديدة، طوال عقود القرن العشرين، إلى مستوى الفعل والإنجاز، إلا أن مجريات الأمور، ضمن السياقات والشروط التي أطَّرتها وتُؤطِّرها، أنجبت، كما يعرف الجميع، أوضاعاً مختلفة عن روح الشعارات التي رفعها الشباب في الميادين العمومية، في تونس والقاهرة وصنعاء، ثم في ليبيا وسورية وباقي البلدان العربية، بدرجاتٍ من التفاوت والاختلاف.
لا يتعلق الأمر هنا فقط بالمجتمعات التي انتفضت ضد الاستبداد والفساد، بل يشمل مختلف البلدان العربية، حيث انتقلت عدوى مناهضة مظاهر الطغيان إلى أغلب المجتمعات العربية، ما دفع أنظمتها السياسية إلى البحث في كيفيات وَقْفِ السَّيْل الجارف، لحركة الاحتجاج وشعاراتها الهادفة إلى تحقيق الإصلاح السياسي الديمقراطي.
لابد من التوضيح هنا أن الارتباك المقصود هنا يعكس عجز الأنظمة العربية السائدة على مواجهة التحدِّيات القائمة في مجتمعاتها، حيث أصبحت غير قادرةٍ على بلورة الخطط والبرامج التي تسمح لها بالمحافظة على نفسها، وعلى المكاسب التي بنيت في نهاية القرن الماضي، الأمر الذي يجعل الارتباك مرادفاً للتراجع والسقوط.
تُبرز مُؤَشِّرَات عديدة صُور الارتباك القائمة في أغلب المجتمعات العربية، سواء في أنظمة الدول وبنياتها، أو في مؤسسات المجتمع وتنظيماته السياسية والمدنية. نتبين جوانب من ذلك في أشكال التمزق السياسي والاجتماعي القائمين هنا وهناك، في بلدان المشرق والمغرب العربيين. كما نتبيّنها في أشكال الاضطراب المرتقبة، بناء على التحوُّلات الجارية، وما تحمله من إشاراتٍ كاشفةٍ عن غياب التوازنات المطلوبة، في مجتمعات تتطلع إلى الاستقرار والتنمية.
تضاعفت، في السنوات الأخيرة، عمليات التوظيف السياسي للقبيلة والعِرق الدموي والمعتقد المذهبي، لتصنع حسابات مذهبية وطائفية كثيرة، بهدف تفكيك الأنظمة السياسية القائمة، 
وتحويلها إلى أقاليم تحكمها عائلات. وعندما نتأمل الدعاوى الإثنية وأساليبها في التجييش، وكذلك صور العنف المستخدمة في خطابات من يوظفها، نكون أمام ظواهر لم تسمح عقود من الاستقلال، تحت سلطة الأنظمة السياسية الناشئة في مجتمعاتنا، بتجاوزها.
تتعزَّز صُور الارتباك المُوَاكِبة لانتعاش الطائفية والتمزّق الاجتماعي، ببروز الملامح الكبرى لمشروع سياسي جديد، يتجه مُدَبِّرُوه إلى رسم خرائط للوضع العربي الحالي، حيث تكشف معطيات كثيرة جوانب عديدة من التحوُّلات المنتظرة، في البلد الواحد، وفي مجموع البلدان العربية وبدون استثناء.
يمكن أن نتوقف أمام أمثلة أخرى، تحمل إرهاصات واضحة عن انطلاق مسلسل توسيع درجات الارتباك القائمة في مشهدنا السياسي، يتعلق الأمر بالأزمة التي يعرفها الخليج العربي، بعد الاصطفافات التي فجَّرها مؤتمر الرياض والموقف من الإرهاب، حيث أصبحنا أمام مواقف وخيارات، تروم خلخلة التوافقات التي بُنِي عليها مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من ارتفاع أصوات خليجية وعربية كثيرة، إقليمية ودولية، مطالبة بتوظيف آلية الحوار بين أطراف النزاع، فإن استمرار الأزمة واختلاط أوراقها، يكشف عمق الارتباك المتواصل بين أطرافها. كما أن تمادي إسرائيل في سياستها العدوانية وتنفيذ خُطَطِها، الرامية إلى القيام بمزيد من تهويد القدس الشرقية، في سياقٍ سياسيٍّ تتفاقم فيه مظاهر الانقسام الفلسطيني، وتنشغل فيه أغلب البلدان العربية باضطراباتها الداخلية، ما يوضح بجلاء طبيعة الحسابات الإسرائيلية، الهادفة إلى مزيدٍ من ترسيخ مظاهر سيادتها على القدس.
لم تستطع أنظمتنا السياسية، في ضوء متغيِّرات الراهن، نفض غبار الزمن عنها، ولعلها لم
تدرك، بما فيه الكفاية، نوعية التحولات التي حصلت بفعل انفجارات 2011، على الرغم من معاينتها صور الانهيارات التي لحقت دولا عربية كثيرة. أما النخب السياسية، فقد استكانت لآليات في الفعل السياسي المُحَاصَر، من دون أن تتمكّن من ابتكار ما يسعف بتفكيك أنظمة الفساد المهيمنة على مجتمعاتها، والمهيمنة، في الآن نفسه، على كثير من تصوراتها وأفعالها، فنتجت من ذلك الملامح العامة لكثير من مظاهر الشَّلَل الحاصلة في مشهدنا السياسي، وما تَرَتَّب عنها من صُور التَّطَاوُل الذي تُمارسُه اليوم قوى إقليمية ودولية عديدة، متوخِّيةً ترتيب ملفات وأوضاع ما بعد الربيع العربي.
أتصور أننا سنواجه، في المدى المتوسط، أعاصير جديدة، تُفْضِي إلى مزيد من الإنهاك والارتباك، الأمر الذي يتطلب التفكير في إعداد العُدَّة اللازمة، لمواجهة ما ينتظرنا من أحداث. فلا يعقل، وسط ردود الفعل التي نُنشأ على مبادراتٍ يتم إملاؤها عنوة، أن لا نرسم لظواهر تأخرنا السياسي البرامج المساعدة على تخطي العوائق والصعوبات التي تواجهنا، خصوصا أن معطيات كثيرة حاصلة اليوم في مجتمعاتنا تتشابه وتنسخ بعضها. فقد آن أوان مواجهة الذات بصلابة، فلا نسمح لأنفسنا بالانخراط في معارك يصنعها الآخرون، ويرتِّبون قواعدها، من دون أن ندرك أن التبعية في هذا الباب بالذات سَتُوَلِّد ما يُضاعِف ارتباكنا ومآزقنا.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".