أن نعتاد على وجود إسرائيل

29 يوليو 2017
+ الخط -
كنت، في السنة الماضية، مدعوةً إلى المشاركة في مهرجان برلين الشعري، وكانت لي قراءة في الافتتاح، ومشاركة في ندوات مع كتاب سوريين وفلسطينيين وأوروبيين من أصول مهاجرة، عن الكتابة واللجوء. ليلة الافتتاح، وأنا في الفندق، أنتظر المنظمين، تتقدّم مني سيدة تعرّفني إلى نفسها بأنها صحافية إسرائيلية، وقدمتْ لحضور المهرجان مع أصدقاء لها، منهم ناشر معروف في إسرائيل. كانت في منتهى التهذيب. قالت لي إنها قرأت عني على "غوغل"، وأنها ترى أن هذا المهرجان فرصة لها لتصادق كتابا عربا، فالحكومات العربية والإسرائيلية تعمل على التفرقة بين الشعوب، ونحن أبناء عم، كما قالت! شعرت باضطراب، فهي المرة الأولى في حياتي التي أقف فيها وجها لوجه مع شخصٍ من إسرائيل، ونتبادل حديثا بمفردنا. وسرعان ما استرجعت ذاكرتي الفوبيا التي كانت تصيب الكتاب والفنانين السوريين الذين تتم دعوتهم إلى مهرجانات دولية، فوبيا إسرائيل، والخشية من أن يلتقط أحد صور أي لقاء عابر مع أي إسرائيلي، لتبدأ حملة التخوين والتشكيك والاتهام بالتطبيع ضده، وهو ما حدث في سنوات ماضية مع أصدقاء كتاب وفنانين.
ضحكت من الفكرة، فأنا أعيش خارج سورية الآن، وثمّة أشياء كثيرة تغيّرت، بما فيها شكل العلاقة مع إسرائيل، مضى الأمر بسلام، على الرغم من أنني حاولت تجاهل وجود الوفد الإسرائيلي طوال أيام المهرجان، بينما كنت أرى أصدقاء من جيل أصغر مني، يتعاملون معهم بدون الخشية التي تصيبني، كلما اقترب مني أحدهم، هل المسألة إذاً هي مسألة سن وأجيال؟ أنا من جيل تشبّع بالفكر القومي، تفتّح وعيه على فكر واحد، أو أفكار متشابهة. لم يكن على زمن وعيي الأول إنترنت ولا فضائيات ولا أي شيء من هذا. أتذكر المرة الأولى التي شاهدت فيها قنوات فضائية عربية، ليس في زمن بعيد قياسا بسني، تستضيف محللين من إسرائيل مباشرة على الهواء. كان الأمر يشبه الصدمة لي، ثم تعوّدت على وجودهم على الفضائيات العربية شيئا فشيئا. تفتح وعي جيل ابنتي والأصغر والأكبر قليلا على نظرية أن العالم قرية كونية صغيرة، يمكن لأي منهم التواصل مع أي إسرائيلي عبر "النت"، من دون أي إحساس بالخطر أو بالخوف، أو حتى بأن هذا التواصل من أنواع التطبيع. لا معنى لمفردة التطبيع هنا أساسا، إذ نشأت أجيال عربية معتادة على وجود إسرائيل في يومياتها، فعدا عن الفضائيات وضيوفها، هناك معاهدات السلام والسفارات في بعض العواصم العربية، وهناك الحضور الإسرائيلي البشري في هذه العواصم، وهناك سقوط مريع لكل الأفكار الأيديولوجية لصالح الفكر الليبرالي الذي يرى في العولمة حلا لمشكلات العالم، وهناك أخيرا ما تفعله الأنظمة العربية من التنكيل بشعوبها، والذي يتجاوز ما فعلته إسرائيل بالعرب بمئات المرات.
هل يمكن بالاستناد إلى ما سبق تفسير إعجاب كثيرين من شباب العرب، المتزايد بإسرائيل، والقبول بوجود إسرائيليين في نشاطات ثقافية خاصة في بلاد اللجوء؟ لا أتحدث هنا عن مهرجانات كبيرة، بل عن نشاطات وفعاليات ثقافية تختص بالسوريين تحديدا، وقد سمعت قصصا كثيرة عن وجود اسم اسرائيل بطريقة ما في هذا المجال. لست من الواهمين المتحدّثين بالقضاء على دولة إسرائيل، حتى لو كنت أتمنى ذلك. إسرائيل كدولة أو كيان لن تنتهي، وذات يوم ستصبح جزءا من نسيج منطقة بلاد الشام ومحيطها، وليس هذا اليوم بعيدا، فكل ما يجري يؤكد قربه. تعمل إسرائيل جاهدة على تحقيق ذلك بذكاء، مستغلة كل ما يمكنها استغلاله، بدءا من الإعلام مرورا بـ"مظلوميتها التاريخية"، وقصور العقل العربي عن التعامل مع هذه "المظلومية" بحنكة، وانتهاء بإجرام الأنظمة العربية تجاه شعوبها، سنكون واهمين إن صدّقنا أن إسرائيل فانية، أو إن قلنا أننا سنبقى أعداء لها إلى الأبد.
سيحل السلام يوما، وسيحدث الاشتباك الثقافي العربي الإسرائيلي. ولكن، قبل ذلك كله ثمّة حقوق تاريخية للفلسطنيين، وثمّة أراض عربية محتلة، وثمّة جرائم تم ارتكابها بحق العرب، لا ينفع معها القول بالانتماء الإنساني العابر للانتماءات الأخرى، جرائم لا ينفع معها غير العدالة الدولية، العدالة الحقيقية لا المنحازة ولا المنقوصة. وحتى يحدث ذلك، سوف يظل الصوت عاليا ضد محاولات العالم تعويدنا على وجود إسرائيل، وفرض قبولها علينا.
دلالات
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.