19 سبتمبر 2022
بعد ثلاث سنوات على داعش في الموصل
تمرّ ذكرى مرور ثلاث سنوات على احتلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الموصل، وقد امتدت نحو أصقاع غرب العراق ووسطه، إثر عمليةٍ لم تكن مباغتةً أبداً للمراقبين في العالم. ولكن، جرت صناعة الحدث من خلال قوى خفية، سهّلت ذلك الاحتلال المأساوي بانسحاب ثلاث فرق عسكرية، وتبدّد الشرطة المحلية، وسط فوضى صُنعت خصيصاً لهذا الغرض، وتركت مئات الدبابات والأسلحة طعاماً لعناصر "داعش"، وسط إعلام مموّه، وصمت رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي يتحمّل المسؤولية التاريخية عن ضياع قرابة نصف العراق بأيدي "داعش"، والغدر بنصف المجتمع العراقي، وما جرّ الحدث من ويلاتٍ وتداعياتٍ وضحايا وخراب.
ما جرى قبل ثلاث سنوات جعل ثاني أكبر مدن العراق وملحقاتها تحت بطش أشرس فئة ضالة وشريرة من البشر، نجحت في تخريب المدينة، وسحق مأثوراتها، وحرق جامعاتها ومكتباتها ومتاحفها، وتفجير أبرز معالمها وجوامعها وأديرتها وكنائسها القديمة.. ومن ثمّ ما اتبع من شراسةٍ لا توصف في حكم العباد، إذ قُتل من البشر ما لا يُحصى عدده، وقُطعت رقاب نسوة ورجال في ساحة قلب المدينة، ونكب جيل بانقطاعه عن الدراسة والتعليم ثلاث سنوات. وشتت الناس وجاعوا وتشردوا، وتيتّم مئات الأطفال، فضلاً عن استئصال المسيحيين الموصليين من المدينة وأطرافها وطردهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، وكذا العبث باليزيدية، وقتل رجالهم وسبي نسائهم وامتلاك أطفالهم.. إلى غير ذلك من المخازي التي لم يشهد مثلها التاريخ أبداً.
هذا الحدث المأساوي سيسجله التاريخ نقطة سوداء في تاريخ العراق على امتداد الزمن. وقد سعى كلّ الخيرين بالعمل المضاد ضدّ هذا السرطان الذي اجتاح العراق وكلّ المنطقة، هذا الغول الذي استلب حركة التغيير والثورات العربية، ليقلبها إلى حالات متنوعة من الفوضى المبرمجة والقتل والبطش، وقد انتشر هذا الوباء في أجزاء متعددة من العالم، لكي يفرض إرادته بالحديد والنار من خلال التفجيرات والقتل الجماعي، سعياً وراء ما سميت دولة الخلافة الإسلامية التي جعلت الموصل عاصمة لها، والتي بدأت عمليات تحريرها منذ أشهر، وقد تحرّر الساحل الأيسر منها، ولم تزل القوات العراقية تسعى لكي تحرّر ما تبقى من الساحل الأيمن والمدينة القديمة المكتظة بالبشر. وقد شهدت عمليات التحرير أهوالاً ولم تزل، إذ وقعَ الناس في المدينة أسرى بأيدي الدواعش الذين خسروا كلّ مقوماتهم، والذين باتوا كالأفعى التي قطع ذيلها، وهي تفترس كلّ الأحياء.
سيسجل التاريخ كيف عاش أكثر من مليوني إنسان تحت ظل هذا الوباء البدائي. كيف عوملوا
بشراسةٍ لا توصف. وكيف مارسوا حياتهم تحت الإرهاب المنظم. وكيف عاشت المرأة عيشة صعبة لا تطاق. وكيف غدت كلّ الحياة مكبّلة بقيود من حديد. وكيف قطعت رقاب الناس لأتفه الأسباب. وكيف مارس التنظيم الدموي حكمه باسم الشريعة. وكيف هدمت معالم المدينة الحضارية. وكيف بيعت الآثار والمكتنزات النادرة. وكيف بقي الناس في منازلهم خشية المساءلة، وخشية التهم السخيفة باسم المحرّمات. وكيف كان المشهد المأساوي العام الذي كسا مجتمع المدينة. وكيف ماتت الأسواق. وكيف بقيت الناس بلا أرزاق ولا رواتب ولا أجور ولا عمل. كيف فرضت المحرمات والممنوعات على الناس، رجالاً ونسوةً وأطفالاً. وكيف فرض النقاب على كل النسوة، واللحى على كل الرجال. وكيف غدت الحياة جحيماً في ظل حكم التنظيم الوحشي الذي لا يعرف الرحمة، ولا القانون ولا التفاهم ولا الوعي ولا التفكير السوي ولا الوسطية.. ماذا عانى الناس من شماتة الآخرين، ناهيكم عن التجريح وكيل السباب والشتائم ضمن فوضى ضياع الأخلاق والقيم الوطنية. إنها تجربةٌ تاريخيةٌ مريرة، صنعها غير أسوياء اجتمعوا في الموصل من شتات الأرض، أجانب وعرب ومعهم عراقيون من فاقدي الضمائر والغيرة على أهلهم وبلدهم، وقد انساقوا مع تيار العنف بقناعاتٍ لا يمكن استيعاب مدلولاتها أبداً.
بدأ الجيش العراقي، ومن تجحفل معه، عملياته بتحرير الموصل منذ شهور، وكان الثمن غالياً جداً، إذ تحوّلت دواخل المدينة، سواء بمساكنها أو دوائرها ومدارسها وجامعتها وكل مؤسساتها، إلى ساحة حربٍ استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، كما نال القصف الجوي أماكن حيوية وسكنية عديدة، وسقط مئات الضحايا، ونزح عن الموصل قرابة مليون نسمة، فضلاً عن مليون آخر، كان قد هرب من المدينة عشية احتلال داعش لها. ويصادف آلاف النازحين اليوم متاعب لا حصر لها، خصوصاً وأن الحكومة العراقية لم تهيئ للناس مستلزمات أية حماية أو وسائل عيش، أو خدمات طوارئ، ولا مراكز صحية متنقلة، ولا أغذية، ولا أغطية. ستلحق كارثة بآلاف النازحين الذين يزداد عددهم يوماً بعد آخر، ناهيكم عن تزايد عدد المشرّدين والأطفال الذين مات أهلهم وتركوهم لمصير مجهول.
كان بعضهم يشعر بأن حكومة نوري المالكي السابقة أشبه بقوة احتلال، مهدت لهيمنة تنظيم الدولة الإسلامية، وكما ذكرت وكالة أنباء رويترز: "الانطباع الأول كان أشبه بفتح أبواب السجن.. ولكن، بدل تذوّق طعم الحرية، دخلت الموصل في زنزانة مقفلة ومظلمة". وقد تأكد ذلك بعد أيام قلائل بتفجير مراقد الأنبياء وأضرحة الأولياء التي كان يعتز بها الموصليون، وبدأت سلسلة إعدامات بحد بالسيف أو إقامة الحدود بالجلد أو الغرق أو رمي البشر من فوق العمارات الشاهقة أحياء، أو الإعدامات بالجملة رمياً بالرصاص. وكان الناس يصدمون كل يوم بغرائب الأمور. بعد سقوط الموصل، أصدر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "ميثاق المدينة" الذي لخص فيه رؤيته الصارمة، متمثلة في حظر التدخين والمخدرات والكحوليات وهدم الأضرحة التي يرى فيها التنظيم الشرك بعينه، وأمر بارتداء النساء ملابس محتشمة مع قفازات سوداء والتزامهن المنازل.
وبدأ التنفيذ منذ الأسبوع الثاني، إذ حطم المتشدّدون الداعشيون تماثيل حضارية رائعة لرموز الموصل، منها تمثال للشاعر العباسي أبي تمام، وآخر للموسيقار الملا عثمان الموصلي الذي عاش في القرن التاسع عشر، ونبشوا قبر المؤرخ ابن الأثير الذي عاش في القرن الثاني عشر، ودمروا القبة المقامة فوق الضريح مع الحديقة المحيطة به. وفي استعراضٍ متوحشٍ ضخم للقوة، سار آلاف من مسلحي التنظيم الدواعش في وسط الموصل في ساعة متأخرة من أحد الأيام الأولى، رافعين بنادقهم ومستعرضين مدافعهم المضادة للطائرات ومنصات إطلاق القذائف الصاروخية. ووسط الناس الذين تجمّعوا للمشاهدة، هتف الدواعش: "الدولة الإسلامية هنا لتبقى" و"من هنا سننطلق إلى بغداد ومن هناك إلى دمشق". اضطربت الحياة العامة كلها، فماتت التجارة، وسدّت المطاعم، وأغلقت المدارس، وحوصرت الناس في منازلها، ثم بدأت عملية استئصال كل المسيحيين وإخراجهم من دون موجوداتهم، سواء من الموصل أو أطرافها.
وسيطر الداعشيون على أملاك المسيحيين، وأملاك كل الفارين من وجوههم. وعندما تم سبي النسوة اليزيديات، جيئ بهن إلى الموصل، ليصبحن ممتهناتٍ لدى هؤلاء المتوحشين الجدد، كما جرى تشتيت الشبك والتركمان والكرد والأرمن والسريان والكلدان والآثوريين.. وأخليت قرى كاملة من سكانها، وسرعان ما أصبحت الموصل مقراً لحكم داعش الصارم الذي نفر منه السكان.
نهاية "داعش" قريبة بحول الله، وأتمنى مخلصاً على أهلنا في الموصل أن تكون هذه المحنة درساً بليغاً وتاريخياً لهم، مناشداً الحكومة العراقية أن تفي بالتزاماتها بفرض الأمن والقانون وتعمير الجامعة والمدارس والمؤسسات والدوائر الرسمية والشوارع والمستشفيات، ومساعدة الناس في الاستماع إليهم وتلبية مطالبهم المشروعة، بالقضاء على "داعش" قضاء مبرماً. والمناشدة هنا من أهل الموصل أن لا يبقوا على أيٍّ من خلايا "داعش" تنمو وتتحرك على الأرض أبداً، إذ عليهم أن يطووا صفحة "داعش" إلى الأبد. وستبقى تجربة إجرامية متوّحشة في الذاكرة التاريخية.
ما جرى قبل ثلاث سنوات جعل ثاني أكبر مدن العراق وملحقاتها تحت بطش أشرس فئة ضالة وشريرة من البشر، نجحت في تخريب المدينة، وسحق مأثوراتها، وحرق جامعاتها ومكتباتها ومتاحفها، وتفجير أبرز معالمها وجوامعها وأديرتها وكنائسها القديمة.. ومن ثمّ ما اتبع من شراسةٍ لا توصف في حكم العباد، إذ قُتل من البشر ما لا يُحصى عدده، وقُطعت رقاب نسوة ورجال في ساحة قلب المدينة، ونكب جيل بانقطاعه عن الدراسة والتعليم ثلاث سنوات. وشتت الناس وجاعوا وتشردوا، وتيتّم مئات الأطفال، فضلاً عن استئصال المسيحيين الموصليين من المدينة وأطرافها وطردهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، وكذا العبث باليزيدية، وقتل رجالهم وسبي نسائهم وامتلاك أطفالهم.. إلى غير ذلك من المخازي التي لم يشهد مثلها التاريخ أبداً.
هذا الحدث المأساوي سيسجله التاريخ نقطة سوداء في تاريخ العراق على امتداد الزمن. وقد سعى كلّ الخيرين بالعمل المضاد ضدّ هذا السرطان الذي اجتاح العراق وكلّ المنطقة، هذا الغول الذي استلب حركة التغيير والثورات العربية، ليقلبها إلى حالات متنوعة من الفوضى المبرمجة والقتل والبطش، وقد انتشر هذا الوباء في أجزاء متعددة من العالم، لكي يفرض إرادته بالحديد والنار من خلال التفجيرات والقتل الجماعي، سعياً وراء ما سميت دولة الخلافة الإسلامية التي جعلت الموصل عاصمة لها، والتي بدأت عمليات تحريرها منذ أشهر، وقد تحرّر الساحل الأيسر منها، ولم تزل القوات العراقية تسعى لكي تحرّر ما تبقى من الساحل الأيمن والمدينة القديمة المكتظة بالبشر. وقد شهدت عمليات التحرير أهوالاً ولم تزل، إذ وقعَ الناس في المدينة أسرى بأيدي الدواعش الذين خسروا كلّ مقوماتهم، والذين باتوا كالأفعى التي قطع ذيلها، وهي تفترس كلّ الأحياء.
سيسجل التاريخ كيف عاش أكثر من مليوني إنسان تحت ظل هذا الوباء البدائي. كيف عوملوا
بدأ الجيش العراقي، ومن تجحفل معه، عملياته بتحرير الموصل منذ شهور، وكان الثمن غالياً جداً، إذ تحوّلت دواخل المدينة، سواء بمساكنها أو دوائرها ومدارسها وجامعتها وكل مؤسساتها، إلى ساحة حربٍ استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، كما نال القصف الجوي أماكن حيوية وسكنية عديدة، وسقط مئات الضحايا، ونزح عن الموصل قرابة مليون نسمة، فضلاً عن مليون آخر، كان قد هرب من المدينة عشية احتلال داعش لها. ويصادف آلاف النازحين اليوم متاعب لا حصر لها، خصوصاً وأن الحكومة العراقية لم تهيئ للناس مستلزمات أية حماية أو وسائل عيش، أو خدمات طوارئ، ولا مراكز صحية متنقلة، ولا أغذية، ولا أغطية. ستلحق كارثة بآلاف النازحين الذين يزداد عددهم يوماً بعد آخر، ناهيكم عن تزايد عدد المشرّدين والأطفال الذين مات أهلهم وتركوهم لمصير مجهول.
كان بعضهم يشعر بأن حكومة نوري المالكي السابقة أشبه بقوة احتلال، مهدت لهيمنة تنظيم الدولة الإسلامية، وكما ذكرت وكالة أنباء رويترز: "الانطباع الأول كان أشبه بفتح أبواب السجن.. ولكن، بدل تذوّق طعم الحرية، دخلت الموصل في زنزانة مقفلة ومظلمة". وقد تأكد ذلك بعد أيام قلائل بتفجير مراقد الأنبياء وأضرحة الأولياء التي كان يعتز بها الموصليون، وبدأت سلسلة إعدامات بحد بالسيف أو إقامة الحدود بالجلد أو الغرق أو رمي البشر من فوق العمارات الشاهقة أحياء، أو الإعدامات بالجملة رمياً بالرصاص. وكان الناس يصدمون كل يوم بغرائب الأمور. بعد سقوط الموصل، أصدر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "ميثاق المدينة" الذي لخص فيه رؤيته الصارمة، متمثلة في حظر التدخين والمخدرات والكحوليات وهدم الأضرحة التي يرى فيها التنظيم الشرك بعينه، وأمر بارتداء النساء ملابس محتشمة مع قفازات سوداء والتزامهن المنازل.
وبدأ التنفيذ منذ الأسبوع الثاني، إذ حطم المتشدّدون الداعشيون تماثيل حضارية رائعة لرموز الموصل، منها تمثال للشاعر العباسي أبي تمام، وآخر للموسيقار الملا عثمان الموصلي الذي عاش في القرن التاسع عشر، ونبشوا قبر المؤرخ ابن الأثير الذي عاش في القرن الثاني عشر، ودمروا القبة المقامة فوق الضريح مع الحديقة المحيطة به. وفي استعراضٍ متوحشٍ ضخم للقوة، سار آلاف من مسلحي التنظيم الدواعش في وسط الموصل في ساعة متأخرة من أحد الأيام الأولى، رافعين بنادقهم ومستعرضين مدافعهم المضادة للطائرات ومنصات إطلاق القذائف الصاروخية. ووسط الناس الذين تجمّعوا للمشاهدة، هتف الدواعش: "الدولة الإسلامية هنا لتبقى" و"من هنا سننطلق إلى بغداد ومن هناك إلى دمشق". اضطربت الحياة العامة كلها، فماتت التجارة، وسدّت المطاعم، وأغلقت المدارس، وحوصرت الناس في منازلها، ثم بدأت عملية استئصال كل المسيحيين وإخراجهم من دون موجوداتهم، سواء من الموصل أو أطرافها.
وسيطر الداعشيون على أملاك المسيحيين، وأملاك كل الفارين من وجوههم. وعندما تم سبي النسوة اليزيديات، جيئ بهن إلى الموصل، ليصبحن ممتهناتٍ لدى هؤلاء المتوحشين الجدد، كما جرى تشتيت الشبك والتركمان والكرد والأرمن والسريان والكلدان والآثوريين.. وأخليت قرى كاملة من سكانها، وسرعان ما أصبحت الموصل مقراً لحكم داعش الصارم الذي نفر منه السكان.
نهاية "داعش" قريبة بحول الله، وأتمنى مخلصاً على أهلنا في الموصل أن تكون هذه المحنة درساً بليغاً وتاريخياً لهم، مناشداً الحكومة العراقية أن تفي بالتزاماتها بفرض الأمن والقانون وتعمير الجامعة والمدارس والمؤسسات والدوائر الرسمية والشوارع والمستشفيات، ومساعدة الناس في الاستماع إليهم وتلبية مطالبهم المشروعة، بالقضاء على "داعش" قضاء مبرماً. والمناشدة هنا من أهل الموصل أن لا يبقوا على أيٍّ من خلايا "داعش" تنمو وتتحرك على الأرض أبداً، إذ عليهم أن يطووا صفحة "داعش" إلى الأبد. وستبقى تجربة إجرامية متوّحشة في الذاكرة التاريخية.