العلاقات التركية الألمانية.. عنق الزجاجة

11 يونيو 2017
+ الخط -
إصرار حكومة حزب العدالة والتنمية التركية على التدخل في تشكيل لائحة النواب الألمان الذين سيزورون جنود بلادهم العاملين في قاعدة أنجرليك العسكرية قابله رفض ألماني قاطع، انتهى بقرار سحب الجنود من تركيا بأسرع ما يكون. وقد رفضت أنقرة، للمرة الثانية، الطلب الألماني خلال شهرين، وردت برلين برفض العرض التركي نقل القوات الألمانية إلى قاعدة قونيا الأطلسية، في تسويةٍ للخلاف والتهدئة.

توتر سياسي وديبلوماسي جديد في العلاقات التركية الألمانية التي تسير على أرضٍ وعرة، وفوق مستنقعات من الرمال المتحركة منذ أكثر من عام، على الرغم من التصريحات السياسية العلنية في الجانبين حول الرغبة في تخفيف التوتر، وتجاوز هذه المرحلة الصعبة. وكان وزير الخارجية الألماني، سيغمار غابرييل، يقول، وهو في طريقه إلى أنقرة، إن ألمانيا وتركيا ترغبان في تحسين العلاقات بينهما، فرأيناه وهو يغادر تركيا على وقع أصوات رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، "ليفعلوا ما يريدون". وكأن الوزير الألماني يقول، في قرارة نفسه، هل من المعقول أن لا يقابل "البلوف" التركي "الصولد" الألماني، حتى لو كانت النتيجة خسارة الطرفين.
تقر وزيرة دفاع ألمانيا، أورسولا فان در لاينت، إنّ انسحاب قوات بلادها من قاعدة إنجرليك الجوية سيؤثر سلباً على نشاط بلادها في مكافحة تنظيم داعش الإرهابي، وباحتمال تراجع الدور الألماني الاستراتيجي في خطط الحرب على "داعش"، بعد تحييد دور نحو 260 جندياً ألمانياً في المهمة الدولية لمكافحة "داعش" في سورية والعراق، وست طائرات استطلاع "تورنادو" وطائرة تزويد بالوقود، لكنها تقول إنه لا يمكن قبول القرار التركي بعدم السماح للبرلمانيين الألمان بزيارة جنودهم العاملين في القاعدة، والاكتفاء بالإصغاء لما يقوله أردوغان "إذا ما قررت ألمانيا سحب قواتها سنقول لها مع السلامة".
اعتقدت تركيا أن برلين ستلين من مواقفها، وستقبل الحل الوسط في نقل الجنود الألمان إلى
قاعدة قونيا الأطلسية، لكن المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي تستعد لانتخابات برلمانية صعبة بعد ثلاثة أشهر، لم تشأ منح المعارضة الألمانية فرصة إضعافها في الداخل، واستغلال الحادثة سياسياً ضدها، فقررت إضرام النار في سفن العودة، وهي تعرف حجم خسائر بلادها، بسبب قرار الانسحاب هذا.
أتراك كثيرون يحمّلون المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، مسؤولية التوتر الذي افتعلته، بحنكة وذكاء، وبشكل مبرمج لتضييق الخناق استراتيجياً وإقليمياً على تركيا. قناعة تركيا تقول إنّ الوثوق بميركل وسيطاً يحرّك مشروع التقارب التركي ـ الأوروبي كان خطأً، وأنّها هي التي أسقطت أنقرة في المصيدة السياسية والحزبية الداخلية لألمانيا، وسحبت ورقة اللاجئين من يدها فرصة مساومة ثمينة مع الاتحاد الأوروبيّ، وأن ميركل قرّرت التخلص من التفاهمات التي أنجزتها مع أردوغان سورياً وألمانياً وأوروبياً قبل أشهر، لأنها شعرت بخطورة ارتداداتها السياسية والحزبية عليها، وأنّ إعلانها عن التقارب الألماني التركي أخيراً لم يكن سوى مناورة سياسية لكسب الوقت والفرص.
الغزل السياسي في العامين الأخيرين بين أنقرة وبرلين، وخطوات التنسيق في ملف الأزمة السورية الذي أدى إلى ولادة اتفاقية اللجوء التركية الأوروبية، وفتح الطريق مجدّداً أمام العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي بدعمٍ ألماني، تحول فجأة إلى ساحة حربٍ مدمرة، في أعقاب قرار البرلمان الألماني قبول وقوع الإبادة العثمانية ضد الشعب الأرمني عام 1915، وتصاعد حدة التوتر بعد استدعاء أنقرة القائم بالأعمال الألماني، احتجاجاً على منع سلطات بلاده نقل كلمة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى أنصاره عبر الفيديو إلى آلاف المحتشدين الأتراك من أنصار حزب العدالة والتنمية في مدينة كولن، لترويج حملة تعديل الدستور التركي باتجاه النظام الرئاسي، وتغيير برلين طريقة تعاملها مع المشهد السياسي والأمني التركي، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة وقرارات حالة الطوارئ وموجات التوقيف والاعتقالات ضد آلاف من المواطنين، بتهم المشاركة في التآمر على تركيا وقياداتها.
سحب الوحدات الألمانية يعني أن المستشارة ميركل لم تأخذ بما تقوله وتريده تركيا في شروطها ومطالبها حيال قبول بقاء القوات، مثل تسليم العناصر المحسوبة على جماعة غولن الفارة إلى ألمانيا، والتي حصل كثيرون منها على حق الإقامة واللجوء والتعاون مع تركيا في موضوع ضبط الخناق على عناصر حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وقواعدهما الناشطة في المدن الألمانية، وتقاسم المعلومات الاستخباراتية حول تحركاتهما في شمالي سورية والعراق، والتوقف عن مهاجمة الرئيس التركي في الإعلام الألماني.
ويقول وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، إن على ألمانيا أن تُدرك أنها لا تستطيع أن تُملي على تركيا ما تريد، وتسيّرها كما تشاء، وإنه إذا اتخذ الألمان خطواتٍ إيجابية في المستقبل، عندها نفكر في الموافقة على فتح الأبواب أمام البرلمانيين الألمان، "الجانب الألماني يعترف بعدم صحة السماح لأنصار حزب العمال الكردستاني وعناصر منظمة غولن الإرهابيتين، القيام بأنشطة في المدن الألمانية"، لكن الحديث في الجانب الألماني هو عن ثمنٍ لا بد أن تدفعه تركيا التي عارضت مشروع التعاون بين حلف شمال الأطلسي مع النمسا، الدولة المحايدة وغير العضو في الحلف، ورفض مشاركتها في تدريبات عسكرية في البلقان، رداً على الانتقادات المستمرة التي توجهها فيينا لحكومة الرئيس أردوغان، وعن رد ألماني من العيار الثقيل نفسه، يشمل بذل الجهود لمنع انعقاد قمة زعماء حلف شمال الأطلسي (الناتو) للعام المقبل في إسطنبول، للحيلولة دون منح أنقرة زخماً يعزّز دورها على الصعيد الدولي. وربما، والأهم من ذلك كله الانتقام من الرئيس التركي أردوغان الذي كشف عن تفاصيل لقائه المستشارة الألمانية في أثناء مشاركتهما في قمة حلف الشمال الأطلسي، بقوله إنه جدّد طلب تركيا تقديم أسماء النوّاب الراغبين بزيارة "أنجرليك"، لكون نوّاب ألمان "يدعمون التنظيمات الإرهابية بشكل صريح وعلني"، وإنه ورداً على مطالبة ميركل بالإفراج عن الصحافي التركي الذي يحمل الجنسية الألمانية، دنيز يوجال، قال لها أردوغان "لديكم كثيرون من أمثال دنيز متورطون في أعمال إرهابية".
المسألة أبعد من رفض تركيا قبول الوفد البرلماني الألماني في "أنجرليك"، بل لها علاقة
مباشرة بحوالى خمسة آلاف مطلوب، تريدهم تركيا من السلطات الألمانية، وترفض برلين تسليمهم متذرعةً بعدم وجود قرار للقضاء الألماني بذلك. ثم هناك مسألة أن تركيا فتحت الأبواب أمام "التورنادو" الألمانية، لتتحرك في أجواء المنطقة، لرصد تحركات مجموعات "داعش" في سورية والعراق، وتقاسم المعلومات مع قوات التحالف الدولي، لكن المشكلة أن القوات الألمانية رفضت تقاسم ما جمعته من معلوماتٍ حول تنقلات وحدات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، بذريعة أنها لا توافق على تصنيف الحزب في إطار المجموعات الإرهابية كما تقول تركيا، وأن مهمتها هي فقط رصد حركة "داعش"، وتزويد التحالف بها.
لم يتأخر وزير الخارجية الألماني في تذكير الأتراك أنّ تركيا تعد من أهم الشركاء الاقتصاديين لألمانيا، وأنّ حكومة برلين حريصةٌ على مواصلة التعاملات التجارية مع الحكومة التركية، وستسعى إلى إيجاد السبل الكفيلة لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أنقرة، وهي رسالة تقرأ بوجهين: هل ستدخل تركيا في مغامرة تعريض 35 مليار دولار من العلاقات التجارية للخطر، وعرقلة قدوم أكثر من خمسة ملايين سائح ألماني سنوياً إلى سواحلها الجنوبية كلّ سنة؟
لن يمر سحب الوحدات الألمانية من دون أن يكون له ارتداداته، ليس فقط على العلاقات الثنائية، بل على مصالح الطرفين وقراراتهما الإقليمية. وقد عاد وزير الخارجية الألماني بيد فارغة من أنقرة، لكن على تركيا أيضاً أن تستعد للرد والانتقام الألماني على أكثر من جبهة متداخلة، تتقاطع فيها المصالح والحسابات. وخط الزلازل التركي الألماني يعطي مؤشرات متزايدة بهذا الاتجاه.
أين وكيف سترد ألمانيا؟ عرقلة العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي. إضعاف النفوذ والقوة التركية في حلف شمال الأطلسي (الناتو). قطع الطريق على الرغبة التركية في استضافة قمة الحلف للعام المقبل في اسطنبول. تعطيل تنفيذ الشق الأوروبي في اتفاقية اللجوء الموقعة بين الطرفين، وعرقلة إرسال المساعدات المالية الموعودة أوروبياً إلى اللاجئين السوريين في تركيا. تحريك ملفات الداخل التركي ضد حكومة "العدالة والتنمية"، وفي مقدمتها ملفات السريان والقضية الكردية والعلويين والحريات.
وقد طالعتنا الصحف الألمانية، قبل أيام، في صدر صفحاتها الأولى، بعبارة للمستشارة ميركل، تقول "ستندمون على ذلك"، فدبّ القلق والخوف، إلى أن اكتشفنا أن الرسالة ليست لنا، في تركيا، بل للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي تخلى عن توقيع اتفاقية المناخ. وتقول برلين، عبر صحافتها اليومية، إن الدور سيأتي على تركيا التي خذلتها على هذا النحو في "أنجرليك"، وأن الرد قد يكون قبل انتهاء المستشارة من حملة الانتخابات البرلمانية وإعلان النتائج في الخريف المقبل؟
4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.