08 نوفمبر 2024
وثيقة حماس.. تأطير تطوّر قائم
كما كان متوقعاً، أثارت الوثيقة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والتي كشفت الحركة النقاب عنها في الأول من مايو/ أيار الجاري، نقاشاً ولغطاً كثيريْن، وتحديداً حول ما إذا كانت "حماس" قد بقيت وفية لذاتها ومبادئها، أم أنها تغيّرت، وتراها تحث الخطى على درب حركة فتح التي انتقلت من هدف تحرير كل فلسطين إلى استجداء إقامة دولة على بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. في المؤتمر الصحافي الذي عقده في الدوحة، وأعلن فيه عن الوثيقة رسمياً، أصر رئيس المكتب السياسي للحركة، خالد مشعل، أن "حماس" لم تتغير وإنما تطوّرت، وأن هذه الوثيقة السياسية تعكس تطور مفاهيم الحركة وتصوراتها بعد ثلاثين عاماً، من دون أن يعني ذلك أي تنازلٍ في مواقفها الكلية المبدئية التي تؤكّد على فلسطين كل فلسطين، من دون تنازل عن شبر من ترابها، ومن دون اعترافٍ أبداً بإسرائيل. في المقابل، فإن خصم حماس الفصائلي والسياسي، حركة فتح، اعتبرت، على لسان ناطقها الرسمي، أسامة القواسمي، أن "حماس" مطالبة بالاعتذار لها ولمنظمة التحرير الفلسطينية، ذلك أنها انتهت، كما قال إلى حيث هما اليوم، ولكن متأخرة ثلاثين عاماً، بحديثها عن قبول دولة فلسطينية في حدود عام 1967 "صيغة توافقية وطنية مشتركة". وبين هذين الموقفين الحَدِّيَيْنِ، انقسم كثيرون من مؤيدي "حماس" نفسها، بين من تبنّى روايتها أنها لم تتغير ومن عتب عليها أنها أخطأت في الإشارة إلى الدولة الفلسطينية على أراضي عام 1967، حتى ولو من باب البحث عن أرضيةٍ وطنية مشتركة، من دون التنازل عن كلية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني، وتحديداً حق العودة لكل أبنائه وعبر أجياله.
بداية، لا تحمل وثيقة حماس السياسية جديداً في خطاب الحركة ومفرداتها التي بدأت في التبلور منذ ما قبل أواسط التسعينيات، وهي منذئذ لم تكن رهينةً في مواقفها للميثاق الذي لُبِّسَتْهُ تلبيساً في الأصل، ولم يكن يوماً محلّ إقرار مؤسساتها وإجماع قياداتها. ودليلاً على أن "شَبَحَ"
الميثاق الصادر عام 1988 ما زال يَسْكُنُ "حماس" أنها لم تجرؤ على أن تقول رسمياً، حتى وهي تصدر الوثيقة، بأنه أصبح ماضياً وراء ظهرها، على الرغم من أن هذه هي الحقيقة. وعوض ذلك، فإنها وضعت الأمر في سياق تخريجيٍّ، مفاده بأن الميثاق يعكس مرحلةً تاريخيةً في تطور فهم الحركة ووعيها السياسي. ومن يقرأ الوثيقة السياسية بتمعنٍ، ويقارنها بالميثاق، سيجد أن "حماس" لم تتنازل عن موقفٍ من مواقفها المركزية فيه، وتحديداً في تحديد حدود فلسطين التاريخية، وتعريف الفلسطيني. كما أن أرض فلسطين بقيت في مقاربة "حماس" عربية إسلامية، وفلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية. كما ترفض "حماس"، في الوثيقة، كل الصكوك، بدءاً من وعد بلفور، والقوانين والقرارات الدولية، والاتفاقيات والمبادرات الفلسطينية والعربية، والتي تلمح إلى أي اعتراف بشرعية إسرائيل.
الجديد في الوثيقة أن "حماس" تجاوزت لغة العموميات الفضفاضة في الميثاق السابق إلى لغة أكثر سياسية وضبطاً. مثلاً، لا يوجد في الوثيقة الجديدة حديثٌ عن صراعٍ ديني بين اليهودية والإسلام، واليهود والمسلمين، ولا تلك الإشارات السخيفة إلى المؤامرات اليهودية التاريخية على الإسلام والمسلمين، وتوسيع دائرة الأعداء المتحالفين معهم شرقاً وغرباً. بل نجد الوثيقة، على عكس الميثاق، تفرّق بين اليهودية ديناً والصهيونية إيديولوجيا عنصرية، عدوانية، إحلالية، توسعية، مُغْتَصِبَة. أيضاً، تعطي الوثيقة لحركة حماس بعدها الفلسطيني الوطني، والذي كان تائهاً في الميثاق. ولكن البعد الوطني هنا لا يعني، بالضرورة، انسلاخ "حماس" عن عمقها، الإسلامي، كما تقاربه. أثارت هذه النقطة جدلاً واسعاً حول ما إذا كان هذا يعني تبرؤ "حماس" من انتمائها التنظيمي والفكري لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما ينصّ عليه الميثاق صراحة، غير أن مشعل، في مؤتمره الصحافي، كان واضحاً أن مرجعية حماس الفكرية هي المرجعية الإخوانية، مع استقلال "حماس" تنظيمياً عن الجماعة. وبالمناسبة، ليس هذا جديداً، فكل فروع جماعة الإخوان كانت دائماً مستقلة تنظيمياً عن بعضها، ولا يبدو أن "التنظيم الدولي" بقي قائماً، أو أنه على الأقل غير فاعل اليوم، وبالتالي، لم يعد من المجدِي لحركة حماس أن تبقى تدفع ثمن عضوية "التنظيم الدولي"، وتحديداً في علاقاتها مع مصر والسعودية، خصوصاً وأن التنظيم الدولي يتفسّخ تحت الضغوط والاستهداف، وهو ما دفع تنظيمات إخوانية، كما في الأردن، إلى الخروج من تحت عباءته.
تبقى مسألتان. الأولى، أن "حماس"، في وثيقتها السياسة، اعتبرت أن للمقاومة وسائل وأساليب متعدّدة، وإنْ أكّدت على أولوية المقاومة المسلحة، في حين أنها، في الميثاق، اعتبرت أنه "لا حل للقضية الفلسطينية إلا بالجهاد". ما جرى هنا أن الوثيقة ضبطت لغة الميثاق الإيديولوجية البحتة. وتتعلق المسألة الثانية بجزء من نص المادة 20 من الوثيقة أن "حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة"، وهو أمر يرفضه الميثاق كلياً. هذا النص تحديداً هو الذي وظّفه خصوم حركة المقاومة الإسلامية، وتحديداً في "فتح"، ضدها. ولكن قراءة النص كاملاً غير مبتسر، ووضعه ضمن سياق لغة الوثيقة كاملة، والتي ترفض فيها "حماس" الاعتراف بأي شرعية لإسرائيل، يظهر أن هذا "التنازل" من "حماس" تكتيكي لتخفيف الضغوط عليها، وللبحث عن أرضيةٍ مشتركةٍ فلسطينية. وتنص المادة بكليتها على: "لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك، وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية، فإن حماس تعتبر ...".
ما تقدّمه الوثيقة هنا تأطير للتطور الذي هو واقع "حماس" منذ أكثر من عقدين ونيف،
فالحديث عن حل مرحلي (دولة على أراضي عام 1967 كاملة) وهدنة في أدبيات "حماس"، بدأ منذ مطلع التسعينيات، وكان الشيخ أحمد ياسين، الأب الروحي للحركة، في مقدمة القائلين بهما، وقد دخلت "حماس" هدنة فعلية مع إسرائيل من ستة أشهر عام 2008، وتبعتها هدنٌ أخرى. وقد تكرّر حديث حماس عن دولة في كامل الأراضي المحتلة عام 1967، من دون اعتراف بإسرائيل، في برنامج حكومتها الأولى عام 2006. وعلى الرغم من ذلك، رفضت "حماس" في العام نفسه شروط الرباعية الدولية، (الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة)، المشرفة على ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وقد طالبتها بالالتزام بها، إن أرادت رفع الحصار عن حكومتها والقبول بها طرفاً في العملية السياسية الفلسطينية-الإسرائيلية. والشروط هي: الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، نبذ العنف والإرهاب، الاعتراف بالاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير وإسرائيل.
كما أن حماس وقعت عام 2006 على "وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني"، مع فصائل أخرى، وفيها تلميح لقبول بحل دولة فلسطينية على أراضي 1967، على أساس أنه مرحلي بالنسبة لحماس. وقالت في رسالة، عام 2008، إلى الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، إنها تؤكد على حق الشعب الفلسطيني "في إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود عام 1967". ولكن ذلك كله بشرط عدم الاعتراف بإسرائيل، والتنازل عن بقية فلسطين التاريخية.
من لم يلاحظ تلك المواقف السابقة، وغيرها، في مسيرة "حماس"، حتى وهي تتصدّى لثلاثة اعتداءات صهيونية همجية على قطاع غزة، وحتى وهي تبني عسكرياً، فهو لا يعرف "حماس" أصلاً. الوثيقة لا تحمل تنازلات في المبادئ والأفكار، وهي براغماتية في المفردات والسياسات. الاستراتيجية إيديولوجية صلبة، في حين أن الممارسة براغماتية منضبطة بالإيديولوجيا. أيضاً، من غير الموضوعي مقارنة حماس بـ"فتح" التي نَسَفَتْ ذاتياً عمودها الفقري عبر تمييع الإيديولوجيا، في حين أن الثانية بقيت تُعَضِّدُهُ يوماً بعد آخر. حماس اليوم هي حماس الأمس، في حين أن "فتح" اليوم حركة تائهة بلا بوصلة، ولا مركز يضبط حركتها. تطور الفكر والمسار السياسيين هو الأصل، لا نقيضه.
يقول كثيرون إن حماس ارتكبت خطيئة بدخولها معترك الصراع على "سلطة أوسلو"، ذلك أنها وقعت، كما يقولون، ضحية النقيضين: المقاومة أم السلطة، في حين أن أحداً لا يريد أن يجيب على أسئلة: وماذا لو لم تدخل حماس معمعة السلطة، هل كانت قيادة السلطة الفلسطينية وأجهزة أمنها ستدعها وشأنها تقاوم؟ أكانت مقاومة حماس ستحرّر فلسطين؟ أم هل كنا سنعلم أن "حماس" قادرة على الجمع بين السقوف العليا والسياسات المرنة؟ يريد كثيرون لعن تجارب الآخرين وتنازلاتهم، لكنهم لا يريدون وضع أنفسهم في تعقيدات وضعياتهم، ليعلموا إن كان في وسعهم أن يقودوا بشكل أفضل.
تطور الفكر السياسي بحاجة إلى البراغماتية في المسار والتصلب في الإيديولوجيا.. ومن تفاعلهما يتطوّر الأفراد والحركات والدول والأمم.. كل حياتنا، حتى الشخصية منها، هي حصيلة هذين التفاعليْن، الطموح (المبدأ/ الإيديولوجيا)، والواقع (الضرورة/ التحدّي)، ومن يقول غير ذلك يعيش في أوهامه وهوامشه. وكلمة أخيرة للناقمين على "حماس" إشارتها إلى دولة فلسطينية في أراضي عام 1967 حلاً توافقياً فلسطينياً مرحلياً.. لا تدينوا "حماس"، الأولى بالإدانة قيادة منظمة التحرير والأنظمة العربية التي أوصلت الفلسطينيين إلى هذا القاع الآسن. بغير مثل تلك الإشارة "التكتيكية"، سنكون أمام شرخٍ فلسطيني أعمق للأسف.
بداية، لا تحمل وثيقة حماس السياسية جديداً في خطاب الحركة ومفرداتها التي بدأت في التبلور منذ ما قبل أواسط التسعينيات، وهي منذئذ لم تكن رهينةً في مواقفها للميثاق الذي لُبِّسَتْهُ تلبيساً في الأصل، ولم يكن يوماً محلّ إقرار مؤسساتها وإجماع قياداتها. ودليلاً على أن "شَبَحَ"
الجديد في الوثيقة أن "حماس" تجاوزت لغة العموميات الفضفاضة في الميثاق السابق إلى لغة أكثر سياسية وضبطاً. مثلاً، لا يوجد في الوثيقة الجديدة حديثٌ عن صراعٍ ديني بين اليهودية والإسلام، واليهود والمسلمين، ولا تلك الإشارات السخيفة إلى المؤامرات اليهودية التاريخية على الإسلام والمسلمين، وتوسيع دائرة الأعداء المتحالفين معهم شرقاً وغرباً. بل نجد الوثيقة، على عكس الميثاق، تفرّق بين اليهودية ديناً والصهيونية إيديولوجيا عنصرية، عدوانية، إحلالية، توسعية، مُغْتَصِبَة. أيضاً، تعطي الوثيقة لحركة حماس بعدها الفلسطيني الوطني، والذي كان تائهاً في الميثاق. ولكن البعد الوطني هنا لا يعني، بالضرورة، انسلاخ "حماس" عن عمقها، الإسلامي، كما تقاربه. أثارت هذه النقطة جدلاً واسعاً حول ما إذا كان هذا يعني تبرؤ "حماس" من انتمائها التنظيمي والفكري لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما ينصّ عليه الميثاق صراحة، غير أن مشعل، في مؤتمره الصحافي، كان واضحاً أن مرجعية حماس الفكرية هي المرجعية الإخوانية، مع استقلال "حماس" تنظيمياً عن الجماعة. وبالمناسبة، ليس هذا جديداً، فكل فروع جماعة الإخوان كانت دائماً مستقلة تنظيمياً عن بعضها، ولا يبدو أن "التنظيم الدولي" بقي قائماً، أو أنه على الأقل غير فاعل اليوم، وبالتالي، لم يعد من المجدِي لحركة حماس أن تبقى تدفع ثمن عضوية "التنظيم الدولي"، وتحديداً في علاقاتها مع مصر والسعودية، خصوصاً وأن التنظيم الدولي يتفسّخ تحت الضغوط والاستهداف، وهو ما دفع تنظيمات إخوانية، كما في الأردن، إلى الخروج من تحت عباءته.
تبقى مسألتان. الأولى، أن "حماس"، في وثيقتها السياسة، اعتبرت أن للمقاومة وسائل وأساليب متعدّدة، وإنْ أكّدت على أولوية المقاومة المسلحة، في حين أنها، في الميثاق، اعتبرت أنه "لا حل للقضية الفلسطينية إلا بالجهاد". ما جرى هنا أن الوثيقة ضبطت لغة الميثاق الإيديولوجية البحتة. وتتعلق المسألة الثانية بجزء من نص المادة 20 من الوثيقة أن "حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة"، وهو أمر يرفضه الميثاق كلياً. هذا النص تحديداً هو الذي وظّفه خصوم حركة المقاومة الإسلامية، وتحديداً في "فتح"، ضدها. ولكن قراءة النص كاملاً غير مبتسر، ووضعه ضمن سياق لغة الوثيقة كاملة، والتي ترفض فيها "حماس" الاعتراف بأي شرعية لإسرائيل، يظهر أن هذا "التنازل" من "حماس" تكتيكي لتخفيف الضغوط عليها، وللبحث عن أرضيةٍ مشتركةٍ فلسطينية. وتنص المادة بكليتها على: "لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك، وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية، فإن حماس تعتبر ...".
ما تقدّمه الوثيقة هنا تأطير للتطور الذي هو واقع "حماس" منذ أكثر من عقدين ونيف،
كما أن حماس وقعت عام 2006 على "وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني"، مع فصائل أخرى، وفيها تلميح لقبول بحل دولة فلسطينية على أراضي 1967، على أساس أنه مرحلي بالنسبة لحماس. وقالت في رسالة، عام 2008، إلى الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، إنها تؤكد على حق الشعب الفلسطيني "في إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود عام 1967". ولكن ذلك كله بشرط عدم الاعتراف بإسرائيل، والتنازل عن بقية فلسطين التاريخية.
من لم يلاحظ تلك المواقف السابقة، وغيرها، في مسيرة "حماس"، حتى وهي تتصدّى لثلاثة اعتداءات صهيونية همجية على قطاع غزة، وحتى وهي تبني عسكرياً، فهو لا يعرف "حماس" أصلاً. الوثيقة لا تحمل تنازلات في المبادئ والأفكار، وهي براغماتية في المفردات والسياسات. الاستراتيجية إيديولوجية صلبة، في حين أن الممارسة براغماتية منضبطة بالإيديولوجيا. أيضاً، من غير الموضوعي مقارنة حماس بـ"فتح" التي نَسَفَتْ ذاتياً عمودها الفقري عبر تمييع الإيديولوجيا، في حين أن الثانية بقيت تُعَضِّدُهُ يوماً بعد آخر. حماس اليوم هي حماس الأمس، في حين أن "فتح" اليوم حركة تائهة بلا بوصلة، ولا مركز يضبط حركتها. تطور الفكر والمسار السياسيين هو الأصل، لا نقيضه.
يقول كثيرون إن حماس ارتكبت خطيئة بدخولها معترك الصراع على "سلطة أوسلو"، ذلك أنها وقعت، كما يقولون، ضحية النقيضين: المقاومة أم السلطة، في حين أن أحداً لا يريد أن يجيب على أسئلة: وماذا لو لم تدخل حماس معمعة السلطة، هل كانت قيادة السلطة الفلسطينية وأجهزة أمنها ستدعها وشأنها تقاوم؟ أكانت مقاومة حماس ستحرّر فلسطين؟ أم هل كنا سنعلم أن "حماس" قادرة على الجمع بين السقوف العليا والسياسات المرنة؟ يريد كثيرون لعن تجارب الآخرين وتنازلاتهم، لكنهم لا يريدون وضع أنفسهم في تعقيدات وضعياتهم، ليعلموا إن كان في وسعهم أن يقودوا بشكل أفضل.
تطور الفكر السياسي بحاجة إلى البراغماتية في المسار والتصلب في الإيديولوجيا.. ومن تفاعلهما يتطوّر الأفراد والحركات والدول والأمم.. كل حياتنا، حتى الشخصية منها، هي حصيلة هذين التفاعليْن، الطموح (المبدأ/ الإيديولوجيا)، والواقع (الضرورة/ التحدّي)، ومن يقول غير ذلك يعيش في أوهامه وهوامشه. وكلمة أخيرة للناقمين على "حماس" إشارتها إلى دولة فلسطينية في أراضي عام 1967 حلاً توافقياً فلسطينياً مرحلياً.. لا تدينوا "حماس"، الأولى بالإدانة قيادة منظمة التحرير والأنظمة العربية التي أوصلت الفلسطينيين إلى هذا القاع الآسن. بغير مثل تلك الإشارة "التكتيكية"، سنكون أمام شرخٍ فلسطيني أعمق للأسف.