النفوذ التركي في غرب البلقان والدور الروسي المساند

26 مايو 2017

أردوغان مستقبلاً رئيس ألبانيا بوجار نيشاني بأنقرة (21/12/2016/فرانس برس)

+ الخط -
أخطأت المنظومة الأوروبية، حين تركت عديداً من دول جنوب شرق أوروبا (غرب البلقان) خارج إطار اهتماماتها وأولوياتها طوال العقود الماضية، وركّزت بصورة أساسيّة على دول غرب أوروبا ووسطها، واكتفت بضمّ بلغاريا ورومانيا في شرق القارة للاتحاد، على الرغم من تأكيد بعض القادة المتحفّظين والقوميين الغربيين على حقيقة تسرّع الاتحاد بشأن ضمّ الدولتين الأخيرتين. وعليه، ترك الاتحاد فراغًا كبيرًا في الجناح الشرقيّ، أحسنت انتهازه وملْأه دول فاعلة ومؤثّرة في الإقليم، وفي مقدمتها روسيا وتركيا. استغلّت الأولى الامتداد المسيحي الأرثوذسكي في البلقان، واستثمرت تركيا البعد الإسلامي والأثر العثماني السابق في عديد من دول البلقان، نلاحظ أنّ الاتفاق الضمني بين تركيا وروسيا أصبح حقيقة، على الرغم من اختلاف الديانتين الرئيستين لديهما، وهذا يعني بالطبع غلبة الفكر البراغماتي وحسن اغتنام الفرصة الجيوسياسية المتاحة.

علاقة تمتدّ عبر التاريخ
"سيكون القرن المقبل تركيًا"، هذا ما صرّح به الرئيس التركي السابق، تورغوت أوزال، عام 1992، ولعلّه لم يخطئ في تنبّؤاته تلك، وكان يعني بالطبع دول غرب البلقان بصورة محدّدة. وقبل عدّة سنوات، عقد في أنقرة مؤتمر ضمّ صربيا والبوسنة والهرسك، وتمّ التوصّل إلى اتفاق لرفع مستوى التعاون الثلاثي، بعد انتهاء أعمال القمّة. واستمرّت اللقاءات ما بين قادة هذه الدول في عواصمها المختلفة. ولعبت تركيا دور الوسيط لتحسين العلاقات ما بين صربيا وجاراتها وتوطيدها، خصوصا بعد أن أعلن الرئيس الصربي، توميسلاف نيكوليتش، عن ندم بلغراد على عمليات القتل الجماعي للمسلمين، في مقاطعة سربرنيتسا خلال حرب البلقان السابقة في البوسنة عام 1995. ونشّطت تركيا علاقاتها مع هذه الدول بصورة ملحوظة، بعد العام 2009، وصرّح آنذاك وزير الخارجية التركي، داود أوغلو، بأنّ العقود العثمانية في البلقان سجّلت تاريخًا ناجحًا. وتسعى تركيا إلى إعادة اكتشاف أثر هذه العلاقة العريقة مع دول غرب البلقان.
تمكّن الرئيس التركي السابق أوزال من تحرير الاقتصاد التركي، وتوجيه الصادرات نحو
الخارج بصورة عامّة، وإلى غرب البلقان بصورة خاصّة. وتفيد البيانات بأنّ حجم الصادرات التركية إلى غرب البلقان حتى العام 2000 قد بلغ 2.9 مليار دولار، لترتفع هذه القيمة إلى 7.53 مليارات دولار، حتى العام 2011، والأرقام في تصاعد متواصل.
البوسنة والهرسك في مقدمة قائمة الدول المعنية، وعُنيت أنقرة بتحرير التجارة معها وكذا ألبانيا وجمهورية الجبل الأسود ومقدونيا وصربيا، وأوْلت اهتمامًا بالبوسنة، وتُعتبر تركيا العاشرة ما بين شركاء البوسنة والمستثمرين الأجانب في البلاد، حيث بلغت قيمة الاستثمارات التركية قرابة 131 مليون دولار خلال العام 2014، وتشارك شركات تركية مالية في قطاع البنوك في البوسنة وفي مجال إنتاج الزجاج والطيران.
كما تعتبر تركيا من أهمّ الشركاء في كوسوفو أيضًا، وتمتلك شركات تركية شركة توزيع الطاقة الكهربائية في البوسنة ومطارها الوحيد، وتشارك في قطاع البنوك، وفي العديد من مشاريع الخصخصة المختلفة، ونفّذت مشروع الطريق السريع بين كوسوفو وألبانيا.
وتدعم تركيا جامعاتها ومدارسها في البوسنة ومقدونيا وألبانيا، وهناك مدرسة لتعليم العقيدة الإسلامية في صوفيا أيضًا، تواجه إدارتها عقبات كثيرة، ومطالبة القوميين بوقف عملها، ومنع سبل التمويل الأجنبي القادم من أنقرة. وخلافًا لبلغاريا، فإنّ المناخ العام للاستثمار التركي في دول غرب البلقان متاح وجيّد، وتعمل الجامعات والمدارس على بناء جسور التواصل مع تركيا على الصعيد الثقافي. يذكر أنّ وزير الخارجية التركي السابق، داود أوغلو، قد صرّح بأنّ "تركيا اليوم تدفع ثمن التاريخ العثماني، لأنّ مسلمي البلقان يوجّهون أنظارهم دومًا إلى إسطنبول، لدى تعرّضهم لأزمات". وأضاف أنّ مواطني البوسنة والهرسك وكوسوفو وألبانيا الموجودين في تركيا يفوق تعداد المواطنين الذين يقطنون هذه الدول في الوقت الراهن، يمكن الوقوف على مزيد في هذا السياق في كتاب داود أوغلو "العمق الاستراتيجي" الذي تناول موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية.
تعدّ ألبانيا حليفًا استراتيجيًا لتركيا، وهذا ما أكّده رئيس الوزراء الألباني السابق، سالي بريشا، خلال زيارته أنقرة عام 2012، حيث أعلن رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، أنّ ألبانيا بمثابة الحليف الاستراتيجي في البلقان، ولم تتغيّر أوجه التعاون منذ ذلك الحين بين البلدين، يثبت ذلك الحجم الكبير للتبادل التجاري والتعاون الاقتصادي المشترك.
وتوضح البيانات ذات العلاقة أنّ تركيا قد استثمرت في ألبانيا ما يزيد على مليار دولار خلال السنوات العشرين الماضية، في مجال استصلاح الأراضي والقروض المالية والمساعدات الحكومية المباشرة وغيرها. وتحتلّ تركيا المرتبة الثالثة شريكاً في مجال التجارة مع ألبانيا بعد إيطاليا واليونان، حسب غينتشي موتشاي السفير الألباني في أنقرة. ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين قرابة 420 مليون دولار، وتطمح تركيا إلى رفع هذه القيمة إلى خمسة أضعاف في السنوات القليلة المقبلة، وأبرمت الحكومتان 160 اتفاقية في المجالات الممكنة كافة.

غياب أوروبي وحضور تركي
تمكّنت تركيا وروسيا من توسيع إطار نفوذهما الاقتصادي في دول البلقان، مع فقد الولايات 
المتّحدة الأميركية اهتمامها بهذا الإقليم وتأخّر الردّ الأوروبي المركزي أو انعدامه حتّى اللحظة، حسب ما جاء في ورقة البحث المهمة التي تقدّم بها توميسلاف كريشوفيتش وبريدغراد بركوبليفيتش في الموقع الصربي BKTVNews وتناولتها وسائل إعلام عديدة في دول الإقليم.
تعتبر دول البلقان أسواقًا تقليدية للسلع والخدمات التركية في مجالاتٍ عديدة، وتنافس تركيا الاتحاد الأوروبي في هذه الأسواق، خصوصا ألمانيا وإيطاليا، بل وحتّى روسيا ذاتها، ساعية بذلك إلى أن تصبح قوّة ذات تأثير كبير في الإقليم. وتعتبر تركيا لاعبًا استراتيجيًا وأحد أكبر المستثمرين في مجال تطوير البنى التحتية والبناء وقطاع الزراعة والتجارة والسياحة والثقافة بصورة واضحة، في البوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا وألبانيا وبلغاريا واليونان. وتهدف تركيا من خلال سياستها الخارجية هذه، إلى توسيع نفوذها ودبلوماسيتها الاقتصادية في معظم دول إقليم غرب البلقان.
وتشير البيانات الاقتصادية وغرف التجارة إلى ارتفاع حجم الصادرات الصربية والبوسنة إلى تركيا، حيث تمكّنت الأخيرة من تصدير سلع وبضائع بقيمة 320 مليون دولار للعام الماضي 2016، في وقتٍ بلغت فيه حجم الصادرات الصربية إلى تركيا للعام الماضي قرابة 900 مليون دولار. وتحاول تركيا كذلك ربط أسواق صربيا وألبانيا، على الرغم من أن الأخيرة لم تتوقّف يومًا عن التفكير بتأسيس دولة ألبانيا العظمى، حسب التعليق الذي أدلى به نائب رئيس الوزراء الصربي وزير الخارجية، إيفيتسا داتشيتش، مؤكّدًا فيه على تجذّر إيديولوجية تأسيس ألبانيا العظمى في الوعي الاجتماعي هناك، تعقيبًا على تصريحات إيدي راما رئيس الوزراء الألباني عن إمكانية توحيد ألبانيا وكوسوفو، ما دام الاتحاد الأوروبي غير راغبٍ بضمّ دول غرب البلقان.
وتسعى تركيا جاهدة إلى رفع معدّلات المشاريع الاستثمارية في البناء والطرق السريعة، حيث أقدمت الشركة الأميركية التركية “Enka-Behtel” على بناء العديد من طرق البلقان خاصّة في ألبانيا وكوسوفو والطرق السريعة E-10, E-8 وروسيا تدعم توجّهات التأثير والنفوذ التركي في البلقان.

روسيا ومشاريع الطاقة
لروسيا أهداف استراتيجية لدعم تركيا في البلقان، لتصبح حلقة الوصل ووسيلة للالتفاف على الاتحاد الأوروبي، بشأن مشاريع الطاقة ومدّ القارّة بالغاز الطبيعي. وبات واضحاً وقف كل إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر قناة أوكرانيا عام 2019، حيث من المقرّر انتهاء صلاحية الاتفاقية ما بين البلدين، وتسعى أوكرانيا إلى بيع أصول خطوط نقل الغاز القديمة والمستهلكة لشركات أجنبية، لتعويض الأرباح التي تجنيها لمرور الغاز الروسي عبر أراضيها من دون طائل. لذا أصبح واضحاً أهميّة الخط التركي لنقل الغاز الطبيعي إلى دول المنظومة الأوروبية وشبه جزيرة البلقان. وتسعى روسيا إلى إنجاز بناء الخطّ حتى نهاية العام 2019 لتعويض خط أوكرانيا، علمًا أنّ تركيا تحصل على قرابة 30 مليار متر مكعّب من الغاز الروسي لسدّ حاجة أسواقها الداخلية.
كما تناول اللقاء الذي جمع الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بوتين، في 10 مارس/ آذار 2017 في موسكو إمكانية تزويد تركيا بصواريخ مضادّة للطائرات C-400. وتسعى روسيا من خلال تركيا إلى الحصول على دور أكبر في البلقان، ومنافسة الاتحاد الأوروبي وأميركا الغائبين في شبه الجزيرة. وتناول اللقاء بناء المحطة النووية الروسية "آك كويو"، وتحسين أطر التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري. وستعمل روسيا وتركيا على اقتسام نفوذهما بصورة أكبر وأوضح في البلقان، وتستغل تركيا الأقليات المسلمة الكبيرة والفاعلة هناك لتحقيق هذه الغاية، في مقابل استغلال روسيا العامل الديني، حيث تدين معظم المجتمعات في البلقان بالمذهب المسيحي الأرثوذكسي.
يرى خبراء ومحللون سياسيون أنّ بروكسل تبدو ساذجة لعدم التدخّل، للحيلولة دون تنامي أثر الدولتين ونفوذهما في شبه الجزيرة، تاركة الحبل على الغارب، لكنّ الواقع يشير كذلك إلى انهماك المنظومة وانشغالهما بحلّ مشكلات عديدة عالقة في الوقت الراهن، وفي مقدمتها أزمة اللجوء، ومديونية بعض الدول الهائلة، وإمكانية مسيرة الاتحاد بسرعاتٍ مختلفة في المرحلة المقبلة. على الرغم من أنّ البلقان يعتبر في غايّة الأهمية بالنسبة لبروكسل، وعليها أن توليه أهمّية لوضعه الجيوسياسي الاستراتيجي المهم.

أهمية الحضور الأوروبي في البلقان
يرى رئيس لجنة السياسة الخارجية في البرلمان الأوروبي، ديفيد ماكالستر، ضرورة تقديم
أولويات الاتحاد لدول البلقان، إذا رغبت بروكسل بالحدّ من محاولات موسكو العبث وبسط النفوذ في دول شرق أوروبا. وأكّد ماكالستر أنّ موسكو وأنقرة قد تمكّنتا من رفع وتعزيز نفوذهما في دول البلقان - الغارديان.
روسيا وتركيا ماضيتان برفع نفوذهما في البلقان، وأميركا ورقة ضغط ولاعب دولي قد يجدّد نشاطه في أقرب فرصة متاحة في البلقان. لذا يتوجّب على الاتحاد الأوروبي العودة إلى هذا الإقليم، والتفكير جيّدًا بتأهيل مزيد من دول غرب البلقان، تمهيدًا لضمّها وضمان امتداد التأثير الاستراتيجي للمنظومة في أطراف القارّة، على الرغم من التباين الكبير في النمو الاقتصادي وإمكانيات هجرة أفواج جديدة من مواطني هذه الدول إلى أوروبا الغربية، للحصول على امتيازات وفرص عمل جيّدة، مقارنة بما يحصلون عليه في بلادهم الفقيرة نسبيًا. وقدّم ماكالستر مثالا على ما ذكر نفوذ الكرملين، وإمكانية تورّط روسيا في محاولة الاغتيال الفاشلة لميلو ديوكانوفيتش رئيس وزراء جمهورية الجبل الأسود السابق، ودعم التنظيمات والأحزاب القومية في الإقليم، على الرغم من إنكار روسيا كل هذه الأخبار المتداولة في وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الدولية. لكن، من المؤكّد نجاح روسيا بتمرير رؤيتها المعادية للمشروع الأوروبي في وسائل الإعلام باللغة الصربية المتداولة في عديدٍ من دول غرب البلقان.
وأشار ماكالستر كذلك إلى بيانات وكالات استبيان الآراء والمواقف الشعبية في صربيا، التي تؤكّد قناعة معظم فئات الشعب، أنّ روسيا أكبر دولة مستثمرة في البلاد، على الرغم من أنّ الاتحاد الأوروبي قدّم مساعدات مالية لصربيا بقيمة 3 مليارات يورو منذ العام 2000، ما يزيد بأضعاف حجم الاستثمارات الروسية في صربيا. وأعرب رئيس لجنة السياسة الخارجية للبرلمان الأوروبي عن أسفه لعدم انضمام صربيا إلى قائمة الحصار الأوروبي المعلن ضدّ روسيا، وكان متوقّعاً أن توفّق صربيا سياستها الخارجية مع المواقف الأوروبية، لتصبح عضوًا في المنظومة.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح