15 نوفمبر 2024
ماذا نريد نحن العرب؟
إذا حاولنا، نحن أمة العرب، أن نعدّد نكباتنا ونسجلها، لاستعصى علينا الأمر، فهي أكثر وأكبر من أن تُحصى وتُحصر، وهي ليست من النوع الذي يمكن أن تُقدّم فيها جردة حساب سريعة وبسيطة. إنها من النوع المركّب والمعقد، وهي متواليةٌ، تفضي كل نكبة فيها إلى أخرى، وتغذّي كل واحدةٍ منها أخواتها. وفي هذا السياق، يغدو الطغيان والهزائم والانكسارات والاحتلال وسفك الدماء والقهر، وكذلك الفقر والفساد والتخلف.. إلخ، كلها عناوين وعوارض لأزمةٍ لا الأزمةُ بذاتها. سؤال من أين نبدأ في تحديد جذور نكباتنا التي نحياها منذ عقود، بل وقرون، أعيا كثيرين من المفكرين الذين تتنوع مدراسهم ومشاربهم وقراءاتهم، لكن أياً منهم لم يفلح في وصف العلاج لحالنا المزري في أفق الانبثاق تصاعدياً من القاع الذي نقبع فيه. أبعد من ذلك، فإنك تجد تشخيصاً كثيراً للمرض، وهي تشخيصاتٌ منطلقة في الغالب من تحيزات إيديولوجية، ولكنك قليلاً ما تجد حلولاً.
هذه السطور لا تزعم أنها تقدّم حلاً، ولا حتى هي تقترب منه بشكل جوهري وعميق، ولربما تسقط هي الأخرى في فَخِّ التوصيف والتشخيص أكثر من محاولة وضع خريطة طريقٍ نحو الخلاص، فالحقيقة المُرَّةُ أن واقعنا، نحن العرب، آسن، بل ومخزٍ، خصوصاً وأننا عالةٌ على أغلب الأمم، لا نقدّم جديداً، ولا نأتي، غالباً، بمفيد. نحن أمة مستباحةٌ داخلياً وخارجياً، سيادتنا شكلية، وبأسنا بيننا شديد، في حين تشهد علينا ساحات الوغى ضد الأجنبي أننا نَنْكَسِرُ كأعواد ثقابٍ منفردة. أما في مجالات العلم والتعليم والتكنولوجيا والصناعة والتصنيع والطب والهندسة. إلخ، فلا تكاد تجدنا على خريطة، بل إنه حتى ضمن سياق منظومة القيم والأخلاق والعائلة فإننا خرجنا من السباق، فترانا نأخذ من الغرب الذي نحن بتقليده مولعون، أسوأ ما فيه، في حين ندع ما يمكن أن يفيدنا منه كالنظم السياسية والاقتصادية والإدارية.
ما سبق يضعنا أمام سؤالٍ مركزي، يمكن أن نقدّمه بصياغاتٍ عدة: ما الذي نريده نحن
لا أظن أن أحداً يملك إجابةً للسؤال السابق بصيغه وزواياه المتعددة. لقد بلغ حجم التدمير الذاتي الذي مارسناه بحق أنفسنا حداً رسّخ قناعة لدينا في الوعي أو اللاوعي، لا فرق، بأننا سنبقى على الدوام في ذيل الأمم. أحببنا أم كرهنا، اعترفنا أم أنكرنا، فإننا انحدرنا إلى مكانٍ سحيق من احتقار الذات وفقدان الثقة بالنفس. يَكْذِبُ من يزعم أن تردّينا اليوم، نحن العرب، عائد إلى الثورات العربية التي انطلقت قبل بضع سنين. فتلك الثورات، أو الانتفاضات، أو الانفجارات الشعبية، سمّها ما شئت، إنما هي بحد ذاتها تعبير عن البؤس الذي وصلنا إليه. لم تبعث فينا جاهليات داحس والغبراء ولا البسوس جراء تلك الثورات، فكم من دولٍ عربية تقاتلت، وكم أُشْهِرَتْ أسلحة بين الأشقاء، وسفكت دماء، ودمّر عمرانٌ قبل تلك الثورات. ومن لم يصدّق فليراجع بعض فضائح تاريخنا المعاصر. بين المغرب والجزائر. بين مصر وليبيا. بين العراق والكويت. وبين سورية والأردن، والقائمة تطول. وإذا كان الانغلاق والتزمت الفقهي في الفضاء الديني من أسباب تخلفنا من دون شك، إلا أن هذا الانغلاق وهذا التزمت ليس مسؤولية بعض التيارات الإسلامية المتطرّفة، فحسب، بل إن أساسه، بالدرجة الأولى، عائد إلى الرعاية الرسمية التي يحظى بها هذا النهج من أنظمة كثيرة، بما فيها التي تزعم العلمانية، كما في مصر مثلاً. فتأميم فضاء الدين وتجييره لخدمة الطاغية العربي لا يحتاج إلى توثيق ودليل. ينسحب الأمر نفسه على أعرافٍ وتقاليد بالية كثيرة، والتي للمفارقة هي مضادة لروح الدين الأصيل والصافي، فهي لا تعكس معضلة مجتمعاتٍ تقليديةٍ فقط، بل إنها من أدوات الإخضاع التي توظفها أنظمة السحق العربي، لكي تبقي الشعوب في حالة جهل واستنزاف ذاتية، تعطل قدرتها على النهوض
باختصار، إننا، كأمة عربية، وهي الهوية الجامعة التي هُمِّشَتْ وَهُشِّمَتْ، بل وتتعرّض للتشكيك والتسفيه والتحقير اليوم.. إننا، باعتبارنا أمة عربية، لا يمكن لنا النهوض أبداً من دون أن نربط جذور مشكلاتنا وتخلفنا مع رؤيةٍ مستقبليةٍ تكون محل توافق لما نريده، وما ينبغي أن نكون عليه. إننا نفقد الغائية والهدف والبوصلة. طبعاً، سيطرح سؤال آخر هنا: كيف نحقق ذلك؟ إنها للأسف المتاهة التي لا نكاد نجد منها مخرجاً. ولو كنت متوقعاً مخرجاً لقلت إننا أمام خيارين فقط، إما ثورات واعية متزامنة وَجَمعِيَّة في أغلب أقطارنا العربية تطلق أولى خطوات طريق الإصلاح والنهوض الطويل والعسير، أو انفجارات دامية مدمرة، أكثر مما رأيناه إلى اليوم. أثبت خيار إصلاح القائم أنه غير واقعي، فتلك النخب المُتَسَلِّطَةُ، والتي تحكم بسيف القهر والرضى الأجنبي لن تسمح بذلك. إنها معادلةٌ صعبة، ويكذب من يقول إنه يملك تصوراً وحلاً. ولكن، لابد من المحاولة، فنحن على أي حالٍ سنفنى إن بقينا على المنوال نفسه.