عن خفوت التضامن في مصر مع الأسرى

15 مايو 2017
+ الخط -
يستمر الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي بمقاومتهم، مستخدمين سلاح الإضراب عن الطعام، رافعين عدة مطالب، في مقدمتها إنهاء الاعتقال الإداري وتوفير الرعاية الصحية والحصول على بعض حقوقهم، ومنها استكمال تعليمهم ورؤية ذويهم. وبعيدا عن هذه المطالب المباشرة، فإن فعل الإضراب، بوصفه فعلا مقاوما، يساهم في إعادة طرح القضية الفلسطنية، داخل فلسطين وخارجها، فالأسرى يعيدون، بصمودهم، رسم حدود المقاومة، ويجدّدون إمكاناتها ووسائلها وأدواتها بفعلٍ يحمل رمزية التحدّي ضد الإحباط، ويحمي القضية الفلسطينية من احتمالات التراجع والخفوت بشكل أكبر.
يعلن الأسرى، بصمودهم، أنهم ما زالوا يملكون قدرةً على مواجهة العدو، في معركة قاسية وممتدة ربما تمتد إلى الموت. يرمي الأسرى بنضالهم حجرا في المياه الراكدة، ويطرحون عدة أسئلةٍ، في مقدمتها مسألة الفصائل الفلسطينية، وتحديد مدى قدرتها على المقاومة، ودفع كتل شعبية للدفاع والتضامن معهم.
كما تطرح قضية الأسرى أسئلةً عن أدوار القوى الوطنية العربية ومواقفها تجاه القضية الفلسطينية، ولعل مسألة ضعف التضامن المصري مع معركة الأسرى أمر ملفت، فكل الفاعليات التي تمت الدعوة إليها كانت خافتة وضعيفة. وهنا، لا يمكن الاكتفاء بتفسير ذلك بالمقولات الرائجة بشأن محاصرة السلطة المجال العام، فهذا النوع من الإجابات الجاهزة، بالإضافة إلى بساطتها، تخفي جوانب عديدة من المشهد الحالي.

كتبت الانتفاضة الفلسطينية شهادة ميلاد جيل جديد دخل المجال العام، وهو نفسه جيل ثورة 25 يناير، ولعل المصريين، وكثيرين من الشباب العربي، يدينون للانتفاضة الفلسطينية بأنها فجّرت حراكا شعبيا ضخما، مثّل تدريبا أوليا على فنون الاحتجاج، وكشف عورات النظم الحاكمة، بل لا نبالغ إذا قلنا إن الانتفاضة الفلسطينية شكلت محطة مهمةً لانطلاق الشعوب، للتعبير عن رغبتها في أنظمةٍ بديلةٍ عن الأنظمة التي تدور في فلك الهيمنة الأميركية، وترى كما كان حسني مبارك يقول "إن الفلسطينيين والإسرائيليين سواء".
لم يستطع نظام مبارك أن يقنعنا بالانكفاء على الذات، وكذلك فشلت كل محاولات فصل القضية الفلسطينية عن الوجدان المصري، على الرغم من الدعاية المكثفة ضد الفلسطينيين منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979. لكن جوانب ساهمت في تهميش القضية الفلسطينية خارج دعاية السلطة، وتلك الجوانب غالبا تهمل، مثل وجود تيارات وجماعات سياسية كانت تلعب دورا تجاوز دور النظم في تزييف وعي الشعوب تجاه القضية الفلسطينية. وكانت بعض الجماعات تتجنب الحديث عن القضية الفلسطينية، بوصفها قضية هامشية، أو محل اختلاف بين التيارات السياسية. لذا، ليس من المنطقي طرحها، هي وغيرها من القضايا، على أجندة قضايا التغيير، وقد استخدم بعضهم القضية الفلسطينية، كما القضايا الاجتماعية، بشكل انتهازي، لكي يهزم النظام، ثم عاد إلى قواعده التي تفضل البعد عن إدانة العدو الإسرائيلي، ولو بمجرد كلمة أو تصريح.
وشهد الوسط الطلابي والحركات الشبابية أمثلةً من هذا الخطاب القاصر والتفكيكي الذي يفصل بين قضية الاستقلال الوطني والأمن القومي المصري والقضية الفلسطينية، بل شهدنا آراء ودعاوى غريبة، منها اعتبار إسرائيل دولة ديمقراطية ونموذجاً يحتذي به في عملية بناء نظام ديمقراطي. وقد تأثر الخطاب السياسي لكثيرين من النخب الشبابية في مراكز الأبحاث الأميركية التي لبرلت خطاب هؤلاء الشباب، وجعلت أميركا وإسرائيل نموذجين ديمقراطيين، ويمكن بناء علاقات طبيعية معهما. وساهم هؤلاء، إلى جانب النظم، في تشكيل جزء من الوعي الزائف، فتعامت كثير من النخب الليبرالية عن جرائم إسرائيل ودور أميركا في مساندتها ومحاولاتها لتفتيت المنطقة العربية وتفكيكها. وهذا الفهم الذي حاولت تعميمه دوائر سياسية تأثرت بعلاقتها بالاتحاد الأوروبي وأميركا سهل مهمة النظم في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، والسعي إلى تسوية القضية الفلسطينية بأي ثمن، تحت مسميات متعدّدة، منها دعوة نظام عبد الفتاح السيسي إلى "نشر السلام الدافئ".
لا يمكن إجمال الإجابة على سؤالٍ عن تراجع الاهتمام المصري بالقضية الفلسطينية في عامل أحادي، مثل تضييق المجال العام، فالإجابة تحتاج أيضا فهم منطلقات القوى السياسية وممارساتها تاريخيا، بالإضافة إلى فهم المتغيرات المحلية والدولية على الساحة المصرية، ودور الإعلام في تشكيل الرأي العام.
وإن كان المجال العام وفضاء الشوارع والساحات مغلقيْن، فإن المجال المقابل من ساحات التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي لم تهتم بقضية الأسرى بشكل ملفت، كما تهتم بنقد النظام إلى درجة تزعج السلطة، وتدفعها إلى إقرار قانون يضيق استخدام تلك الوسائل، كذلك لم يمنع الحصار البوليسي والسلطوي محاولات خروج المصريين ضد اتفاقية تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية.

محليا، يسود بين معظم المصريين شعور عميق بالإحباط والهم الذي يتزامن معه عدم القدرة على المبادرة، وخوض نقاشٍ أبعد من الحدود الضيقة للقطر المصري، وتتمدد هذه الحالة لتصل إلى الانكفاء على الهم الذاتي والشخصي. وعند سيادة هذا الشعور، يتقلص التضامن تجاه القضايا الوطنية والعربية، بل والقضايا العامة، ويستولي على تفكير المصريين الهم الذاتي والشخصي والعائلي، في رغبة للانسحاب من المجال العام إلى أضيق مساحة في المجال الخاص. هنا تتقلص زوايا الرؤية، ولا تتعدّى أبعد من أسوار البيت، يصبح المواطنون أسرى أيضا داخل بيوتهم ومجالهم الخاص.
وإقليميا، تابعت الشعوب العربية، ومنها الشعب المصري، ما يجري من مأساة مستمرة ومذابح وقمع مكثف وقتل متتابع في عدة دول عربية، فأصبح أمر الأسرى الفلسطينيين أقل جذبا للاهتمام، قياسا بما يحدث من مأساة مستمرة للشعب السوري. وقد يرى بعضُهم أن مأساة السوريين من قمع وحصار تجويعي وتشريد وتهجير أشدّ قسوةً من أوضاع الفلسطينيين اليوم. ناهيك عن أوضاع الجيران في ليبيا واليمن وأوضاع عشرات الآلاف من المساجين المصريين.
وأمام كل ما يحدث محليا وإقليما، يشعر المواطن المصري بأنه بلا حول ولا قوة، بعد أن تصور أن حركته الاحتجاجية تخلع نظماً وتأتي بنظم بديلة، وهي صدمة كبيرة بكل المقاييس، تجعل هناك ما يشبه الخلل في الإدراك والفهم، وتدفع إلى الهرب من كل مشهد مؤلم، أو مقاومة ما يحدث بنوعٍ من اللامبالاة المقصودة. وقد يتبادر إلى الذهن سؤال استنكاري: كيف يمكن لأجساد محاصرة أمنيا بحكم سلطوي أن تدافع عن أسرى محاصرين في سجون الاحتلال، لكن المفارقة أن المحاصرين ينتفضون خلف القضبان. ليس المراد في هذه السطور إدانة من لم يعلن تضامنه مع الأسرى، ولو بكلمةٍ، لكنها محاولةٌ للتأمل، وفهم ما نحن فيه من شعور بالإحباط والهزيمة، ربما تبدّده أفعال مقاومة، كنضال الأسرى داخل سجون المحتل الإسرائيلي.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".