ثلاث نساء ورجل

08 مارس 2017
+ الخط -
بكت بحرقةٍ، وهي تصف الحروق التي أصابت أصابع طفلها ذي السنوات الخمس، فقد كان يلحّ في طلب قطعةٍ نقديةٍ صغيرةٍ، أسوةً بأولاد خاله العائد من عمله، والذي وزع قطعا صغيرة على أطفاله الأربعة، وتجاهل الخال ابن شقيقته، وحين بكى الطفل بحرقة قلبٍ، قرّر الخال أن يحرق جسده أيضاً، فوضع قطعةً نقديةً صغيرة على الموقد المشتعل، ثم تركها بحرصٍ على المائدة القريبة، وصاح بالصغير أن يسرع لكي يلتقطها، وقد فعل الصغير، وهو يتخيل أن الرحمة عرفت طريقها إلى قلب الخال، لكن الرحمة كانت قد غادرت قلب الخال إلى الأبد، فقد تعالت صرخات الصغير، بسبب الحروق التي أصابت أصابعه، وأسرعت أمه لتسعفه، وهي تبكي حظها العاثر الذي جعل حياتها رهن إرادة هذا الأخ.
قالت: لا هو يسمح لي بالخروج، لكي أبحث عن عمل، ولا هو ينفق علي وعلى أطفالي الثلاثة، بعد أن تركني زوجي، وفر من البلد، ولا نعرف له مكاناً أو عنواناً، فأصبحت في بيت أخي وهو بيت العائلة، ولكن أخي هو المسيطر والآمر الناهي، فأبي قد توفي منذ سنوات، وأمي طاعنةٌ في السن، لا حول لها ولا قوة، وأخي يفتح أذنيه لوشايات زوجته التي تتهمني جوراً وظلماً، فيضربني، ويوغل في تقييدي، رجوْته مراراً أن أخرج لأبحث عن عملٍ، فرفض بحجة أنني امرأة بلا زوج، وأن الطامعين بي كثر، وأن نفسي لا بد أن تكون أمّارة بالسوء، بعد أن خبرت الرجال، فيخشى أن أجلب له العار.
وعلى باب أحد المولات كانت تقف على استحياءٍ، تمد يدها إلى المارّة، تسألهم الصدقة، فيعطي أحدهم، ويتمنع أكثرهم، ودموع صامتة تسيل من عينيها، ويدها ترتكز على عكاز خشبي، لكي لا تقع بسبب تدافع الصبية المراهقين في أثناء خروجهم من المول. وحين كنت أمرّ بجوارها مع صديقةٍ لي، أشارت الأخيرة نحوها بأنها أرملةٌ مات عنها زوجها، وتركها بلا أولاد، ورفض أشقاؤها أن تبقى في بيتها بمفردها، خشية من كلام الناس، وأجبروها أن تعيش في بيت أكبرهم، وأكبرهم لم يكن يحمل ذرة شفقةٍ نحو شقيقته التي تكبره بأعوام كثيرة، فبدأ يطلب منها أن "تعمل بلقمتها"، حسب تعبيره، ودفعها لتقف في هذا المكان لتتسوّل، ليسطو على ما تجمعه في آخر النهار، ويقدم لها فتات طعام أطفاله.
وفي أحد البيوت الفارهة، كانت تقوم بدور "صبي المعلم"، كما يظهر في الأفلام العربية القديمة، فتعد كل ما يلزم ليالي السهر لشقيقها الذي تعيش معه في بيت العائلة، وحيث يجتمع رفاقه كل ليلةٍ في البيت، فينطلق الدخان الأزرق ليعبق المكان، وترتفع أصوات السكارى الذين جمعهم مال الأب الراحل، والذي ينفقه الابن بلا حساب، ويمنع شقيقته التي قارب شبابها أن يولي من الزواج، لكي لا يذهب الميراث إلى رجل آخر، ولأطفالٍ قد تنجبهم فيقاسمونه الثروة، وهي لا تستطيع أن تعترض، أو ترفع صوت اعتراض روحها، لأنه وليها ووكيلها بعد والدها. وهكذا يمضي عمرها، ومرارة الظلم تجعلها لا تعرف الفرق بين الأيام، كما تقول.
ثلاثة نساء شاءت الظروف أن يقعن تحت ولاية الأخ الأكبر، تحت سطوة من لم يرحمهن، والذي نصب نفسه حاكماً وآمراً من دون قانون مشرع، ولكن العادات الضاربة جذورها في عقل المجتمع هي التي أعطت هذا الرجل تلك الصلاحيات، ابتداءً من الأم التي تهلل، حين ترزق بذكر وحيدٍ، بعد أن تكون قد أنجبت عدة بنات، فتبدأ بإشعاره بمكانته الخاصة، وهي تأمر البنات بأن يهيئن سبل الراحة للملك الصغير في العائلة... ظلم ليس بعده ظلم، يصل إلى حد قتل النساء على يد الأشقاء، بدعوى الحفاظ على الشرف، والأسباب الخفية لقتلهن لا يزاح عنها اللثام، وقانون جائر يخفف العقوبة، أو يلغيها بحق الجاني، حامي حمى العائلات، وملفات قضايا تغلق ويعلوها الغبار، ويخرج الجميع، حكاماً وقتلة وقضاة، لإحياء يوم المرأة العالمي في الثامن من آذار كل عام.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.