لا تنسوا تلكما العينيْن
هل كان لا بدّ من أن تخرُج تلك العينان إلى واجهة الإعلام على حين مصادفة، لكي نقف طويلاً أمام جحوظهما واتّساعهما، لكي نكتشف أن هناك أماكن يفقد فيها الإنسان إنسانيّته، غير الخيام وأماكن النزوح وبيت الإيواء، ولكن أحداً لا يصل إليها فيظلّ معميّاً عنها، وتظلّ النظرة إليها مغيّبة، لا أحد يستطيع أن يصف، باختصار، ما يحدُث فيها، حتى ظهرت تلك العينان لكي تفجعانا بما كان خفيّاً، وهو أعظم من كل تخيّلاتنا، حتى وصاحب تلك العينين يصف ما تعرّض له في السجن بالكابوس، فهذا ليس وصفاً كافياً، لأن عينيْه قالتا ووصفتا أكثر بكثير مما قال، وذلك بعد أن جرى إلقاؤه كجثة قطّة ضالّة بالقرب من أحد المعابر التي تفصل قطاع غزّة عن حدود فلسطين الشرقية المحتلة.
في عينيّ الشاب بدر دحلان المحدّقتين الواسعتين بجنون لتنبئ العالم في هذا الزمن الرديء عن كل ما مرّ به على يدي هذه العصابة التي لا يجد العالم مدّعي الديمقراطية والحرية أمام عربدتها طريقا لإيقافها، أو كأنه يتغاضى عن عربدة فتوّة الحارة الذي يلوّح بعصاه طوال الوقت، ويضرب بها كل من يمرّ يميناً وشمالاً.
صدمتْنا تانك العينان صدمةً لا توصف، ونحن نعرف أن هناك آلاف المعتقلين من غزّة منذ بداية الحرب يقبعون في معتقل صحراوي يسمّى سدي تيمان. ويكفي أن يكون في الصحراء الملتهبة بالقرب من حدود قطاع غزّة لتعرف حجم المأساة التي يعيشها من يدخله، وهو لا يعرف تهمته، وحين يقدّر لقلّة الخروج فهم يتحدّثون عن القليل مما أصابهم من تعذيب، فيما يبكون كثيراً قبل ذلك، ويعجزون عن وصف التنكيل الجسدي والنفسي الذي تعرّضوا له. ويكفي أن يبكي الرجال، ويغطّي الواحد منهم عينيه براحته لتعرف أنه لا يستطيع أن يبوح أكثر، ولكنك تتخيّل لأن هناك اعترافات سرّية عن تعرّضهم للاغتصاب والتعذيب الذي يطاول أجزاء حسّاسة من أجسادهم بهدف النيْل من رجولتهم وكرامتهم.
تانك العينان المحدقتان الواسعتان، وحسب ما أشار إليه الطبيب النفسي الذي عاين صاحبهما، دليلٌ على إصابته بما يعرف بنظرة الألف ياردة، وهي ظاهرةٌ تحدُث ما بعد الصدمة، فيبدو صاحب العينين كأنه ينظُر في الفراغ، ولكنه في الواقع يعاني نوعاً من الانفصال العاطفي عن الواقع بسبب تعرّضه لصدماتٍ أثقل من أن تتحمّلها النفس البشرية، وهي تصيب الجنود والمقاتلين وضحايا الحروب غالباً، وكأن العينين تريدان في تلك الحالة أن تقولا للعالم: تبّاً ماذا فعلنا لتفعلوا بنا هذا.
لم أتخيّل في أسوأ كوابيسي أن أرى نموذجاً جديداً لسجني أبو غريب في العراق وغوانتنامو في كوبا، وعلى بعد قليل من حدود غزّة التي عانت ويلات حروب سابقة، ويعاني أهلها من تداعي حياتهم المرتقبة، ولكن الحقيقة المرعبة أن اليوم هناك سجن سدي تيمان الإسرائيلي، وقد كان بالأساس قاعدة عسكرية تحوّلت إلى معتقل لأهالي غزّة منذ بداية الحرب، ويعيش فيه المعتقلون أسوأ أوضاع وصفتها المحامية نادية دقّة، التي كانت تخشى على نفسها عندما دخلته لزيارة أسير، فما بالُنا بمن يدخلونه معصوبي الأعين، ويتعرّضون لأبشع صور التعذيب، الذي يحوّلهم إلى مرضى نفسيين لو قدّر لهم الخروج، فهناك مثلاً ما يُعرف بغرفة الديسكو حيث يتعرّضون فيها ليل نهار لأصوات الموسيقى العالية، كما أنهم يتعرّضون لعصْب الأعين وقتاً طويلاً، ويُطلب منهم التحديق في الأرض، وغيرها من طرق التعذيب التي تؤثّر على وظائف المخّ، وتنتج ما رأيناه من عينين متّسعتين رسمت فيهما أقسى آيات الهلع، وخلت منهما علامات التعبير، وكأن صاحبهما أصبح منفصلاً عن الحياة.
تانك العينان الصادمتان لبقايا ضمير عالمي يجب أن تكونا ناقوساً يدقّ أمام كل العالم عما يتعرّض له أسرى غزّة، ويقدّر عددُهم بنحو عشرة آلاف معتقل. وتجب إضافة هذه القضية قضية جديدة أمام محكمة العدل الدولية، إضافة إلى تفعيل الحديث المستمرّ عنها في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي جريمة لم يتح المجال لكشف خباياها، ولكنها تضاف إلى جرائم الإبادة الجماعية المستمرّة في قطاع غزّة.