الديمقراطية وامتحاناتها الجديدة

23 مارس 2017
+ الخط -
يتعرّض نظام الحكم الديمقراطي، في العقود الأخيرة، لامتحانات عديدة، سواء في البلدان التي ترسَّخت فيها قواعده، أو في البلدان التي تضع نفسها في خانة الأنظمة العابرة للأطوار الانتقالية المؤدية إليه، وهي الأنظمة التي تجري فيها عمليات التشبُّع بالديمقراطية وآلياتها في العمل السياسي، لحظات انخراطها في عمليات تمثُّل مرجعيتها وتوطينها في الفكر وفي القيم.
تكشف متابعةٌ سريعةٌ لما يجري اليوم في بلدان ديمقراطية كثيرة، أننا نُواجِه جملة من التحوُّلات التي تؤشِّر على بروز جملةٍ من المواقف التي تدعو إلى التفكير مُجَدَّداً في الخيارات الديمقراطية، وفي مساطرها وتقنياتها، وما يترتَّب عن ذلك كله من نتائج. كما تكشف أنماط التغيُّر السريع الجارية اليوم في مجتمعاتٍ كثيرة، بروز معطيات غير منتظرة، تُفرزها آليات الفعل الديمقراطي، وتساهم بدورها في خلق معضلات أمام المشروع الديمقراطي وآليات تدبيره، الأمر الذي يؤكِّد ضرورة إعادة التفكير مجدَّداً في الديمقراطية وآلياتها في العمل.
وإذا كان المهتمون بنظام الحكم الديمقراطي يتابعون الجهود النظرية والإجراءات القانونية التي يبتكرها الخبراء والفاعلون السياسيون ورجال القانون، من أجل تحصين وتطوير الفلسفة الديمقراطية وامتحاناتها في التاريخ، فإنهم يعرفون كذلك أن تواتُر المآزق يستدعي لزوم مواصلة البحث لِرَفْعِهَا، وبناء المخارج المناسبة للسياقات التي أدت إلى حصولها.
لا يتعارض ما نحن بصدده مع مبدأ التطلُّع المستمر إلى استنبات وتوطين، ثم تطوير المشروع الديمقراطي، فلسفةً وإجراءات في محيطنا السياسي، فنمط الحكم الديمقراطي يُعَدُّ في التجربة 
السياسية المعاصرة أقل الأنظمة سوءاً، وأكثرها قرباً من الطموحات البشرية، الهادفة إلى بناء مجتمعات متوازنة، حيث تساهم آليات التوافق والتراضي التي يعمل بها النظام المذكور في تحقيق كثير من أشكال التوازن الاجتماعي. وتبرز هذه المسألة بوضوح، عند مقارنته بنقائضه المتمثِّلة في الأنظمة الكليانية وأنظمة الاستبداد، وهي الأنظمة التي سادت وما تزال سائدة في مجتمعاتٍ كثيرة. فقد تبلور المشروع السياسي الديمقراطي بكثير من التدرُّج والتطوُّر، وذلك خلال تاريخ طويل من العمل السياسي، جَرَّبَت فيه المجتمعات البشرية أنظمة سياسية مختلفة.
لنتوقَّف مثلاً أمام نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية وما أفرزته من تداعيات في المجال السياسي، الأميركي والعالمي، وذلك بعد تَوَلّي الرئيس الجديد دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، حيث تتواصل ردود الفعل المعبِّرة عن مواقف متناقضة. ولنتأمَّل أيضاً الصراعات والمآزق التي أفرزتها الانتخابات التمهيدية لليمين ولليسار في فرنسا، حيث تجري الاستعدادات للانتخابات الرئاسية، فقد ترتَّبت عن آلية الانتخابات التمهيدية جملة من المعارك، دفعت المهتمين والمتابعين إلى مواجهة أسئلةٍ تتصل بعلاقة القضاء والإعلام بالمجال السياسي، وعلاقة الإعلام والقضاء بالمشهد الحزبي، كما تطرح أسئلة أخرى، حول الانتخابات الرئاسية والفساد وتحوُّلات القيم في عالم متغيِّر.
لنفكر أيضاً في نتائج التصويت الذي أفضى إلى الدعوة إلى خروج بريطانيا العظمى من الاتحاد الأوروبي، حيث سينجم عن تنفيذ هذا القرار مجموعة من التدابير التي تتجه إلى التحفظ على خيارات تاريخية كبرى مرتبطة بمكانة الاتحاد الأوروبي ومستقبله، وذلك من دون مراعاة السياقات والخلفيات المؤطرة لهذه المواقف.
لنتأمَّل صُور الصراع المُعْلَن والمستور، في موضوع التحوُّل الديمقراطي المُتَعَثِّر في العالم
العربي بعد ثورات 2011، فما جرى في مصر وتونس والمغرب، على الرغم من اختلاف مسارات هذه البلدان، يكشف أن الجدل يتواصل في المجال السياسي العربي، في موضوع صعوبات توطين الخيار الديمقراطي في المجتمعات العربية.
لم يكن الخيار السياسي الديمقراطي في أي يوم سهلاً، والأنظمة التي تنعم اليوم ببعض مزاياه، مُهَدَّدَةٌ دائماً بالعودة عن طريقها إلى ما يُعَدُّ أدنى منه، ومن القيم التي يُدافع عنها.
نُدْرِج التحوُّلات التي يعرفها المشروع الديمقراطي ضمن أنماط العلامات التاريخية الداعية إلى ضرورة إيجاد توافُقات سياسية جديدة، ومواثيق جديدة تسمح بتحصين (وترسيخ) قيم التفاعل السياسي المبني على أخلاق الحوار والمشاركة، من أجل مجتمعات أكثر استقراراً وأكثر إنتاجية، الأمر الذي يؤهِّلُها لابتكار الحلول القادرة على مجابهة ما تُوَلِّدُه تحوُّلات عالمنا في قلب المشروع السياسي الديمقراطي من مستجدَّات ومن مآزق وأزمات.
ليست الديمقراطية مجرد أفق لتدبير المشروعية السياسية والتاريخية في الحكم، على الرغم من حصول هذا في التاريخ، إنها مسلسل في توفير الضمانات وضبط التوازنات التي تقي المجتمع من شرور الاستبداد والأنظمة الشمولية، وهي توفِّر، قبل ذلك وبعده، الشروط المناسبة لتدبير الاختلاف داخل المجتمع. صحيح أن طريقها اليوم تعتريه مَطَبَّات عديدة، وتتحكَّم فيه آلياتٌ كثيرٌ منها يُغَيَّبُ عن الكتلة الناخبة، وكثير منها يَغِيبُ عن الفاعلين السياسيين تحت تأثير توافقات سريعة، أو ترضيات أو أَخَوِيَّات تتخذ صور وأشكالاً لا يمكن حصرها، إلاَّ أن الأمر الذي ينبغي عدم التفريط فيه هو لزوم الانخراط المتواصل والدائم في البحث عن مسالك ومخارِج تُجَنِّب المجتمعات مخاطر التراجع والانحراف عن طريقها.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".